يواصل روسو في كتابه إميل، منظومة اعتراضه على مواد التدريس المنتخبة للطفولة، لكنه في مرافعته التبريرية، يتجاوز مرحلة الطفولة إلى مصداقية التاريخ نفسه، يُذكّر روسو هنا بالمساحة الواسعة في المخيال الأوروبي في القرون الوسطى، والتي ضخمت الذات الغربية، رغم أتون الصراعات المتعددة التي عاشها الغرب بين دينية وحدودية، قبل عودته لهذا المدار الدموي في عهد الرايخ النازي وفلسفته التي سبقت صعود هتلر.

ويعلــن روســو هـنـا بصــورة واضحة وتواضع للقراء، أنهُ ينحتُ أفكاره دون أي قاعدة مبادئ، وإنما كرجل من عامة الناس ينحاز إلى الحقيقة، أفاده عدم تحزبه وقلة صلته بالناس ومقاربته الواقع (هكذا وصف نفسه)، وهو ما يطرح علامة استفهام كبيرة لا تقلل من فلسفة روسو ولا تأملاته وجرأته في الأنثروبولوجيا الإنسانية.. التي عبر لها دون تخصص ودون أي دراسة اكاديمية تقدس ذاتها، وتحتكر المعرفة، ولكنها تراجع موقع رؤاه في عالم التفكير الغربي، ومن ثم موقعه من التعظيم الذي صُدّر للبشرية، بعد الثورة الفرنسية، وتجاوز فيه مساحة التقدير الكبير لروسو، إلى القداسة التي عطلت نقده وخاصة في عالم الجنوب.

يستدل روسو بقصة زيارة لأحد أصدقائه، قدّم فيها مربي الطفل المكلف من العائلة، سردية لحكاية تناول الدواء المشكوك في سُميّته من قبل الإسكندر المقدوني، وأن الحضور أعجب بالطفل وأثنوا عليه، لنجاحه في تفاعله مع القصة.

يسخر روسو بشدة من هذا المشهد، ويسخر من عقل الطفل ذاته، ويُدلل على أن موضع الإعجاب، الذي ظن ذلك الحضور أن الطفل أدركه، لا حقيقة له، وإنما الزاوية التي أخذت لب الطفل هي جرأة الاسكندر على تناول الدواء، المعتاد مرارته والخوف منه لدى الأطفال، والذي قد يكون المربي قصد به تدريبه على الحكاية.

والحقيقة أن هناك اعتسافا كبيرا في تحرير روسو لدروس هذه القصة، التي مثل بها قاعدته في إبطال جدوى دراسة التاريخ للأطفال، وأن هناك فرقا بين تضخيم الأساطير وصناعتها التي كانت مسرحاً للنصوص الأدبية في اوروبا القديمة، وهي أحد مسارات نقد ادوارد سعيد في الاستشراق، في الدلالة المهمة لتضخم الذات المسيحية الغربية، وهو مدار ممكن أن تفهم فيه نظرية روسو، وخاصة فرز مستويات الوعي الطفولي، ومنحه مساحته المناسبة.

لكن ذلك لا يُسقط أن الطفل حين تُنظم مواد التاريخ المناسبة لعمره، فهي تعطيه أفقاً رحباً وعالماً تصورياً مهماً، لما قبل عهد جيله، ولكن المدار في ربط هذا التاريخ بالقيم، ومفهوم العدالة، وإعلاء شأن السلوك الخيري ومفاهيم الأخلاق العليا، لكي تكون الرابط لدى الطفل المختلف عمريا، في وعيه للتاريخ، ونظريتنا هنا تختلف مع تقريرات روسو، في استيعاب المعنى، وأن تاريخ الأمم والآداب يؤكد أن الأمثلة أوسع من قصة روسو وتقديره الظرفي.

وربما أصاب روسو الحقيقة حين يرفض استغلال مرونة التلقي عند الطفل، بشحنه بتعظيم الملوك ومصطلحات التفخيم، ولكن هذا المدار يحال إلى منهجية الانتقاء، وقد أشار لها بالفعل، وخاصة في رفضه لأساطير لافونتين التي أضحت قاعدة لتلك الإصدارات الضخمة، من الأساطير ومطبوعاتها، التي تروج للأطفال، وهي نقطة مهمة يعلل بها روسو رفض تعلم طفله الافتراضي إميل، مادة التاريخ المملوء بالأساطير، لكن التاريخ وتبسيطه ليس محتكراً في هذه الاساطير، بل إن هذه الأساطير ليست جزءًا من التاريخ المعتبر.

ولعل تنقيح المادة التاريخية للأجيال اليوم، هو مهمة دون أن تسقط حقائقه المرة والقاسية، من آثار المظالم، ويكون التوجيه ذكياً نحو قيم الخير والعدل، وهو مسار يشمل حاضر العالم المسلم، الذي يعاني من زمن طويل من انحياز التدوين الغربي لتاريخ الأمم، عبر قوة المنتصر، وبالذات بعد سقوط الاندلس ثم القرون العثمانية الأخيرة، وصولاً إلى فرض حضارته ما بعد عصر التنوير، لكن الإشكال هو أن آلية الانتقاء والفرز لم تُطلق بناء على الحقيقة والروح العدلية، ولكن على قصص السلاطين في وصف تاريخي، يُعظّم الظلمة ويهمش المصلحين.

ويدرج روسو قصص الحيوانات وخيالات أساطيرهم، في مسار التضليل للطفل، في شراسة الأسد وخبث الثعلب وغير ذلك، وتظل مسألة الخيال قابلة للتحرير والنقد، ما دامت الفكرة الأساسية في بعثها أمام الطفل، وصل عقله المترقب، بحواسه ومأسسة أخلاقه، وهنا يحكم على مدار الحكمة التي تساءل عنها روسو، ومشكلة روسو لا تقف عند التاريخ، ولكنه يتوسع في التقليل من أهمية القراءة للطفل، ولذلك سجلنا هذه الأزمة في تعميماته.