+ A
A -
سهــام جاســم

باتريك زوسكيند كاتب روائي ألماني وُلِد عام 1949م نالت روايته العطر والتي كتبها عام 1985شهرة عالمية واسعة إذ تُرجِمت إلى 46 لغة وبيع منها ما يقرب 15 مليون نسخة حول العالم كما حُولِت إلى فيلم سينمائي شهير في عام 2006م.

ثم تلتها في الأعمال الروائية رواية الحمامة عام 1978م وهي التي سنخصها بشيء من حديث اليوم في هذا المقال.

تتحدث الرواية عن البطل الخمسيني جوناثان نويل حارس المصرف الباريسي الذي آثر أن يعيش وحيداً محكوماً بعزلةٍ أبدية عن الحياة والمجتمع في غرفة متواضعة لا يغادرها مطلقاً إلا للعمل وهو قانعٌ بمساحتها وبساطتها أيما اقتناع كما وجد فيها ضرباً من ضروب الحظوظ العظيمة النادرة هي وتلك الوظيفة التي حصل عليها !

تُرى ما الذي دفعه لاتخاذ العزلة من أجل العزلة ملاذاً فحسب، ليغدو محدود الحركة في مساحته الجغرافية، محدوداً في لقائه العابر بالبشر، محدود التطلع لما قد يجلب إليه السعادة والتعبيرعنها ففي طفولته عبر عنها بالقفز في برك مياه الأمطار الضحلة وكذلك كان الأمر في كهولته !

كان لزاماً عليه في بداية حياته مواجهة صروف الحياة بتوالي وتسارع أحداثها المؤلمة فقد عانى من اختفاء والديه المفاجئين وبعدها إرساله هو وأخته إلى عمه ليحظيا بالرعاية ليجد نفسه يعمل فلاحاً بمزرعته الأمر الذي استهواه كثيراً..

وبعدها اقترح عليه عمه التطوع في الخدمة العسكرية فاستجاب لذلك ليمضي فيها سنوات عدة ليعود بعدة إصابات ويجد أن أخته قد اختفت في ظروف غامضة ولم يكن البحث عنها مجدياً، بعدها اختار له عمه عروساً تزوجها وأنجبت له ولم تلبث أن هجرته ورحلت بعد مدة إلى وجهة غير معلومة..

لم يبحث عنها، ومنذ ذاك الحين لم يعد ليسأل عن أحد، ومنذ ذاك الحين لم يقلق ولم يسمح للفضول بأن يدفعه للبحث خلف الأشياء والأحداث المباغتة ومنذ ذاك الحين لم يعد أحد يقرر عنه قرارات يتجرع مرارة عواقبها وحده لذا اتخذ قراره الحاسم لأول مرة بالرحيل إلى باريس والعمل والعيش وحيداً في غرفة يرى في بساطتها نوعاً من الترف ترف الوحدة وترف الاكتفاء من كل شيء...

يقول باتريك زوسكيند في الرواية: «بعد تلك التجربة توصل جوناثان إلى قناعة ذاتية بأن الناس لا يمكن الوثوق بهم أو الاعتماد عليهم. وأن المرء لن يجد الطمأنينة في حياته إلا إذا انعزل عن الناس».

أتدري لماذا كل هذا الانزواء إنه محاولة منه لإيقاف الأحداث المباغتة عن حياته وكفها عن الحدوث...

وعلى غيرالمعتاد منا نحن البشر محبي التجدد والتغيير فكل ما في الأمر أنه أراد أن يعيش إيقاع الحياة الرتيب وقد قلّص جميع احتياجاته ليؤمن القلة القليلة الضرورية منها، إذ لم يعد ليطيق تلك الأشكال غير المألوفة من العيش والتي لم يكن ليختارها يوماً لكن ذلك لم ينجح معه أيضاً..!

تنعم جوناثان بطل الرواية في حياته الرتيبة حتى ظهرت في غرفته حمامة انتهكت عزلته وأثارت الذعر لديه ورأى أنّها ستُحدث الفوضى الجديدة وتعود لتثيرها في حياته وعلى إثر ذلك رحل هو الآخر من تلك الغرفة الملاذ ليسكن فندقاً آخر لليلة !

الحمامة وهي عنوان الرواية جعلته هو الآخر يرحل عن المكان رحيلاً يكتنف سببه الغموض تماماً كالغموض الذي صاحبه رحيل من رحل عنه وهجر من هجره بلا عودة في حياته !

في الرواية فقدت الحمامة رمزيتها الراسخة في الذاكرة الجمعية كونها رمزاً للسلام....

إذ ما قامت به تلك الحمامة لا يعد مرادفاً للسلام مطلقاً بل مرادفاً لإقحام الذات عنوة وبث القلق وبعثرة عزلته دون أن تمس شيئاً في تلك الغرفة حيث حياته التي عكف على حراستها أيضاً..

البطل في أكثر من رواية لديه يعيش لسبب أو لآخر عزلته وهذا ما عُرِف عن زوسكيند نفسه العزلة ورفض الجوائز الأدبية أو حتى الظهور الإعلامي..

ألا ترى أنّ في مكامن العزلة توجد أيضاً هنالك حياة بتفاصيل بسيطة وأحداث صغيرة تستدعي الكتابة عنها بإبداع ؟

{ كلمـــة أخيـــرة:

يقول الروائي الفرنسي مارسيل بروست في كتابه أيام القراءة:

«حكمتنا تبدأ حيث تنتهي حكمة الكاتب» .

copy short url   نسخ
21/05/2023
400