قدم لي د. لقمان عبد الله المفتي الفدرالي العام للاتحاد الماليزي د. صفوان الذي حرر شهادته العُليا في «فقه المقاصد بين الشيخ د. يوسف القرضاوي وبين الشيخ د. محمد رمضان البوطي» رحمه الله، وهو استقلال علمي فكري نادر في ساحة الخطاب الإسلامي، خاصة بعد صراعات ما بعد الربيع العربي، وعودة التوتر النفسي ومفردات التكفير العقائدي والسياسي في الخطاب (الإسلامي)، كأحد شواهد الردة عن فكر النهضة والذي تحدثنا عنه في الإصدار الأخير «حوارات في الأفكار والمعرفة». إن هذا السياق الماليزي الذي بدأنا شرحه في المقال السابق يُحيي في ضمير الأمة مفهوم الوحدة الجامعة للرأي وخلاصات الفكر، وهو واجب شرعي وأخلاقي لا يجوز التخلي عنه، وفي حين نجد الضيق الذي يُحشر في صدر الذات العربية الإسلامية الحزبية، لا تجد ذلك حاضراً في الروح الماليزية، وهذا لا يعني مطلقاً عدم فهم ومشاركة الآلام، التي تسببت بها أفعال الظلم الجائرة على شعوب المسلمين، وخاصة بعد الربيع العربي، ومسؤولية المواقف المبررة أو المشاركة في خطاب التأويل لتلك الجرائم. غير أن التوازن في تقدير الموقف وفهم مبررات الانحياز، أو التفصيل بين خلاف الإمام والمفكر، مع ما يراه من اندفاع للمشروع الخاص للحزبية الإسلامية، وبين ما يراه من موقعه كقاعدة تأمين لسلامة الشعب والأمة، هو ميزان لا يجوز إسقاطه، هنا واصل الماليزيون ابحارهم بين الضفف العربية المتنازعة، واخذوا من كل فريق وشيخ حظهم من الفكر والمعرفة. ولذلك لا يُفاجئني الإعجاب المشترك، في صفوف الإسلاميين الماليزيين الرسميين والمستقلين والحزبيين، بالشيخ القرضاوي والإمام أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، هناك قاعدة مشتركة لفكر التنوير الإسلامي ولتأسيس الرصيف الإنساني لفهم مقاصد الشريعة، ولم أرى اختلافاً في قيادة المشروع الجديد لشيخ الأزهر، وبين مشروع الشيخ القرضاوي الفكري التنويري وشيخه الغزالي، والأُسس التي اعتمدت عليها تجربة النهضة الماليزية. يعود الأزهر اليوم إلى تصدر المشهد العالمي للمسلمين في القضايا الجدلية الخطيرة، وفي مشروع التغريب المركزي للكولونيالية الرأسمالية العالمية، ويشعر المسلمون وخاصة غير العرب بذلك الحصن المنيع الذي مثّله الأزهر في تاريخ الكفاح أمام جرافات الاستعمار الفكرية، التي تعود بقوة جديدة عبر الهيمنة السياسية الغربية، كما أن الحالة العربية اليوم، إثر تصدع البنية الاجتماعية بعد الثورة المضادة، تتطلع إلى الركن الإسلامي الشديد الذي يمثله الأزهر الشريف. إن هذا البعث المتصل بفكر المجددين الأزهريين من الرواق الرسمي والمستقل عنه بات منارة إشعاع يَنظر إليها فئات من الشباب والمجتمعات الحائرة، القلقة على جوهرها الإسلامي، والتي كانت تعاني من فقه الراديكالية الدينية في مؤسسات فتوى أو في مجموعات منظمة، وكانت تعلن لهم تكفير تاريخ التشريع الإسلامي، أو ضلال المنهج المقاصدي وأن المختصين بالنجاة يوم الدين، هم الغلاة فيه الرافضون لرخصه ومساحة الحياة المدنية فيه. وهذا ليس محصوراً في جماعات الغلو.. كلا، بل هو يكمن في ذاكرة بعض ارث الدعوة الإسلامية، وبعضه يتجسد في جماعات غلو (سلفي) مزعوم، استخدمتها الثورة المضادة لمشروع القمع الأمني الكبير للشعوب والإسلاميين خصوصا. لكن ماليزيا اليوم بحاجة إلى الخروج من هذه التقاطعات التي تغرق فيها الأوطان العربية، ولذلك رأيت أن فقه الشيخ د. لقمان عبد الله المفتي في كولالمبور يُمثّل مع آخرين هذه المساحة المستقلة المهمة، وهو يحافظ على مسؤولياته في موقعه الاستشاري لدى السلطان والحكومة، ومناسبات الدول العربية الرسمية، وله علاقة جيدة بكل الأطياف الفكرية الإسلامية، وحسٌ وطني للتعايش، دقيق في مراعات موازين المجتمع الماليزي وتعدده القومي. ونحن اليوم إذ نبارك هذه الروح وهذه المهمة واشتراك التيارات الإسلامية في المرجعية المتوازنة، نشير إلى أهمية ودور الأزهريون الجدد في الوطن العربي، والذين شرحتُ عناصر تميزهم، وظرف صعودهم، وحرصهم على الخروج من الثورة الجاهلة الغبية التي يعاد إشعال نيرانها بين المذاهب الإسلامية وخاصة بين الأشاعرة والحنبلية السلفية، بدلاً من الاعتناء بثقافة الفرد، وفهم حياته في ظل الاضطراب الشديد لأسئلة الإلحاد والشك. إن منصة فكر النهضة الجامع هو الذي يحمل هم عودة الأمة إلى إصلاح ذاتها، ونهضتها الشرقية عبر التفوق الحضاري والخروج من الإرث الجاهلي، والذي تلبس به بعض التراث أو مارسته العادات والتقاليد باسم الإسلام، وهو يرى أن هذه المنهجية مصدر قوة للوعي الفكري والمعرفي الفارق في حياة المسلمين: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا).