+ A
A -

يقول إدواردو غليانو في كتابه صياد القصص:

في جَوْلاتي كَسَارِدِ حكاياتٍ، كنتُ أقرأ قصصي ذات ليلة في مدينة «أورينسي».

كان هناك سيد ينظرُ إليَّ وهو مقطب الجبين، بعينين لا ترمشان، وفي الصف الأخير للجمهور، له وجه فلاحٍ مدبوغٍ بالعمل وبالأيام، ويبدو غاضباً إلى أقصى الحدود!

عندما انتهيتُ من المحاضرة، اقتربَ نحوي بخطواتٍ بطيئة، كان ينظر إليَّ بثباتٍ، كمن يريدُ أن يقتلني، لكنه لم يقتلني، وإنما قال لي: كم هي صعبةٌ دون ريب الكتابة بهذه السهولة!

وبعد هذه العبارة، الأكثر حكمةً في النقد الأدبي التي أتلقاها في حياتي، أدار لي ظهره وانصرفَ دون تحية!

إنه أسلوب السهل الممتنع، هذا الذي إذا قرأته قلتَ في نفسك: يا للبساطة، من السهل كتابة شيءٍ مثل هذا! ولكنكَ متى جئتَ لتقلده، تكتشف أنَّ هذه البساطة على درجةٍ عالية من التعقيد إلا لمن وهبه الله هذا الأسلوب!

ومخطئ جداً من يعتقد أن أسلوب السهل الممتنع هو إسفاف أدبي، وأنه أدب العوام البسطاء، على العكس تماماً إنه تذكرة العبور السحرية إلى جميع القُرَّاء باختلاف مستوياتهم الثقافية!

مُذ بزغتْ شمسُ الشِّعر الحديث، وتبارى الشعراءُ في إدخال الرموز بين ثنايا القصيدة، صار الأدب عبارة عن طلاسم وأحجيات!

قديماً كانت الصعوبة في الأدب تكمن في المفردة نفسها، أنتَ تفهم السياق ولكن ثمة مفردة تُشْكِلُ عليك، ترجِعْ إلى المعجم، أو إلى شرح القصيدة، فيبان لكَ المعنى!

أما في هذه الأيام فعليكَ لتفهم القصيدة أن تدخل إلى رأس الشَّاعر، إذ أن رموزه لا يفهمها غيره! وأعجَب من شعراء الرموز المعقدين هم النقاد الذين يوهمونك أنهم يسبرون أغوار القصيدة لتبيان جمالها، فيخرجون بمعانٍ لها لم تخطر على بال كاتبها أساساً!

الكثير من الشعر الحديث أُصنِّفه أنا تحت باب «التُّرَّهات الأدبيَّة»، أشبه بشخصٍ يُغني في الحمَّام، ويريدُ من الكوكب أن يُقرَّ له بأنه عندليب زمانه!

البحر يجلسُ القرفصاء! يا للدهشة! لقد سقط المتنبي بالضربة القاضية، وأحمد شوقي بُويِعَ زوراً بإمارة الشِّعر، كيف لم ينتبه أن البحر يجلس القرفصاء؟! مجرّد جمل رنانة، أشبه بسجع الكُهَّان في الجاهلية، وطَرْقِ الأطفال على الأواني يحسبون أن هذا ما يُسمى «النوتة» الموسيقية!

الرغيف يتمطى كالخابية، النافذة تُسرّحُ شعر القمر، البحر بجعة بلورية، الشجرة تنوء بثقل الريح، والسنابل تُضاجع أشعة الشمس في صراع التطاول، والقافية تشرئِبُّ بسكونها، والأغصان تعوي، والقهوة فرس الغائبين، والوردة تجرح وجه الصباح!

كل هذه الطلاسم جاءت في قصائد النابغين الجُدد الذين أدركوا من الشِّعر ما لم يدركه الأوائل، وعليكَ أن تُصفِّقَ لهم، وأن تُردد معهم أن الأغصان تعوي، وإلا فسيعوي عليكَ نُقَّادهم بحجة أنك متخلف ولا دراية لك بالشعر!

copy short url   نسخ
25/05/2023
580