انتقلت الأزمة الخليجية بعد مخاض مر لما بعد تهديد الاجتياح العسكري، الذي توارت تهديداته بعد دخولها عهد التدويل السياسي، وهي حالة حرجة في ظل تعهد دول المحور بحرب إعلامية سياسية بديلة.
لكن الخروج من عنق الزجاجة لعسكرة القضية كان انفراجا مهما، وإن كان مستوى الخسائر السياسية للأمن القومي للخليج العربي، قد دخل في أوضاع خطيرة، تتناسل جراء هذا التصعيد الكارثي، والذي حقق إضعافا واسعا للممانعة القومية للخليج العربي في مدة قصيرة، جعلت كل الأطراف تراهن على حصة من واقعه الجديد، الذي آلت اليه نكسة حزيران الخليجية.
وإعلان دول المحور في لقاء القاهرة عبر وزير الخارجية المصري، إنهاء مهمة الشيخ صباح الأحمد كرسالة ضمنية، كان أحد هذه المؤشرات، غير أن الترويكة الدولية لم تتعامل مع هذا الإعلان بل على العكس، أعادت ضخ الثقة في مبادرة الشيخ صباح، والتي لو كُفل لها أن تُعطى مساحة داخل البيت الخليجي، بتنحية مطالب التصعيد التي تزامنت مع التهديد العسكري لمشروع تأميم قطر، لكانت الخسائر أقل بكثير.
وخاصة حين تُجنب تلك القائمة كلياً، ويُدخل في مفاوضات ثنائية بين الرياض والدوحة في الملفات الثلاث الحساسة، والتي ثبت من خلال تعاطي الاعلام السعودي لها، أنها مصدر توتر بين الدوحة والرياض، وقد سبق أن شرحناها بالتفصيل في مقالات الوطن عن الأزمة، وقد تعود مثل هذه المفاوضات برعاية كويتية لكن ليس قريبا في أرجح الآراء.
المهم أن التدويل الجديد، ركز على تثبيت الحوار كقاعدة لحل الأزمة، واغلاق ملف الاجتياح العسكري، والتفاهم الثلاثي بين برلين وباريس ولندن، مع وزير الخارجية الأميركي الذي اُعطي صلاحيات تسوية الملف، بعد خسارة ترامب لدعم المشروع السابق تؤكد هذا المسار.
هنا يبدو لنا قضية مهمة، وهو الدور الإنجليزي الخاص الذي تلعبه لندن في المنطقة، وفي تاريخ التشكل السياسي لكل دول الخليج العربي قاطبة، وزيارة وزير خارجيتها تحت إطار البروتوكول المعروف، لتنسيق واشنطن مع لندن في قضايا الخليج العربي.
وهو بروتوكول ثابت تجاوزه ترامب بتنسيق إسرائيلي مع حلفائه في أزمة الخليج، فاختلطت ملفات كبيرة، أمام الموقف الدولي، وبالتالي كادت خيوط اللعبة أن تفلت كليا من الغرب، وتُهيىء للعهد الصيني الروسي الجديد، هنا تقوم عملية إعادة ملف الأزمة إلى مسار غربي تحالفي مصلحي للغرب، يعود له ترامب.
وعدم طرح مفهوم مصالحة خليجي ولكن تهدئة كما قال الوزير البريطاني، هو مسار متوقع اليوم، لحجم الصراع الذي انتهك كل الأعراف وخاض في كل الأعراض المحرمة، لكن القصة ليست هنا، وإنما في المعاني السياسية والاستراتيجية العميقة التي تسببت بها الأزمة، فتحرير المصالحة، بعد التركيز العلني الرسمي، أن المهمة اسقاط نظام حكم دولة من أعضاء الخليج، أو اجتياحه وتهديد العضوين الآخرين، لا يمكن تجاوزها في قناعة أصحاب القرار، ولا بنية الدول ومراكز دراساتها.
والاشارة الخجلة، التي صدرت من أمانة مجلس التعاون الخليجي بدعوة موظفي قطر مباشرة أعمالهم في مقرها، قد تكون محاول للملمة بعض الخسائر، لكن واقع المجلس وفشله الذريع لا يسمح بذلك، وانما ببقائه برتوكولياً، كهيكل يحفظ لشعوب الخليج العربي روابطهم الاجتماعية، وقد تكون نقطة الالتقاء المركزية بين كل أعضائه، وهي قضية حرصت عليها الكويت، كمحور للاعتدال الخليجي، وستدفع باتجاهها.
ولم يصدر من الدوحة، رغم المشاعر الشعبية الغاضبة، ما يُشير إلى رغبتها في الانسحاب من هذا المجلس، وإن أدانت صمته، في كل الاحول سيبقى وجوده بروتوكوليا، مع إدراك الشعوب لأزمته العميقة، إضافة إلى قضية بحث الدور المصري الجديد فيه، وكيف سيتم معالجته، هل هو داخل المجلس أو بقاء القاهرة كشريك مع دول المحور، ويُترك المجلس الخليجي حسب ميثاقه.
هذا التصدع الواسع، تزامن مع تقدم إيران في جبهة سوريا، حتى مع تنفيذ الاتفاق الروسي الأميركي لكانتونات التقسيم، فإيران هي القوة الإقليمية الباقية في داخل المشهد، ومؤسسات النظام، وقادرة على هيكلة النظام من داخله، ثم هي تملك الطوق الإقليمي في لبنان والعراق، وتستطيع حرف الاتفاق الدولي للتقسيم الفدرالي أو الشامل لمصلحتها.
وانحسار الدور التركي الذي انعكست عليه اخطاؤه السابقة، في اهمال قضية الجيش الحر منذ 2012، وتحالف كل الأطراف ضد تركيا اليوم بلا استثناء، يتزامن اليوم، مع تحريك توتر سياسي للقضية الكردية داخله، ومع فتنة اجتماعية تسعى لنقض الموقف الأخلاقي والإنساني الكبير، الذي اتخذته تركيا لصالح الشعب السوري.
لكن فُرص تقويض تركيا سياسيا ضعيفة، وإن دخلت أطوار تصعيد اعلامي، وأنقرة اليوم، بدأت تدرك صعوبة التداخل، بين حلفاء غير مأمونين في قضية سوريا، وتأثير ذلك عليها، واتجهت إلى تأمين وضعها القومي مع الإقليم والعهد الدولي، وهذا يقوّي موقفها سواء في ملف المفاوضات الثنائية مع إيران، أو موقف أوروبا، الذي نسقت معه أنقرة في تأمين الخليج العربي، من حرب عسكرية كارثية، وهناك أنباء أن انقرة ستفتح صفحة جديدة مع أوروبا هي من ضرورات المصالح القومية الكبرى لها، فالتلاسن مع أوروبا لن يجدي شيئا، ولن يوقف حملات الاعلام الغربي عليها، والغيرة التاريخية من تركيا قديمة، إنما الحاجة هنا لضبط بطاقات مصالح وعلاقات توازن مع أوروبا، بات الغرب يعطيها وزناَ مهماً، خاصةً في ظل موقف أنقرة الإقليمي الجديد، بين إيران ودول الخليج العربي.
واللبس الذي يثيره بعض خصومها في الخليج، جراء حديث عاطفي من أنصارها عن موقف تركيا بنشر قواتها في قطر، والذي ثبت أنه ساهم في ردع اجتياح عسكري خطير على كل المنطقة ودولها، هي معادلات عاطفية واهمة، تستغلها بعض الأطراف ونوضح ذلك في الآتي:
1 - قرار أنقرة تفعيل اتفاق الدفاع المشترك مع قطر، مسألة استراتيجية لحليف سياسي واعلامي واقتصادي قوي، كان يعني اسقاطه التوجه لإسقاط تركيا، وهو يقوم على قرار ثابت بالفعل من الرئاسة التركية، وعزيمة مشتركة من العمق القوي في حزب العدالة، الذي يُثبت حكمه اليوم لسنوات طويلة.
وإن برزت خلافات سياسية داخلية مع المعارضة عن مستوى الديمقراطية في تركيا، وحول النظام الرئاسي، الا أن الجيش ومركز صناعة القرار مدرك لبقاء قوة التوازن الاستراتيجي، خاصة مع حليف احتاج له كقطر.
2 - ما يردده بعض المتعاطفين مع تركيا العدالة، من أن القاعدة التركية هي مدخل لنفوذ اقليمي واسع، هو وهم وخطأ، القاعدة قوة حماية إقليمية، أضحت ضرورة بعد اضطرابات واشنطن.
ولكن الموقف القطري يقوم على بقاء التوازن الدولي، خاصة مع واشنطن والحضور الفرنسي الجديد، أي أنها قوة حماية مرتبطة بأمن السلام الإقليمي لقطر، والذي كان يتجه عند اقراره، للتوازن مع إيران، ثم أصبح بعد أزمة الخليج العربي، مع المحور الخليجي ذاته.
3 - التواجد التركي الذي سيطور باهتمام مباشر ومتابعة من الرئيس أردوغان، تم ابلاغ دول الخليج العربي به، وخاصة السعودية، وأن تركيا تسعى لتأمين السلم، والمساهمة الإيجابية لكل دول الخليج العربي عبره، وليست قوة توجه لأي طرف خليجي ابتداءً، ورغم الحملة الإعلامية الشرسة، إلا أن هذا البعد تحتاج الرياض للتعاطي معه بموضوعية، في ظل اضطرابات كبيرة سيَكشف عنها ما بعد الأزمة.
4 - من الحقائق المهمة، أن حجم التواجد الغربي، في منطقة الخليج العربي الضخم جدا لا يُقارن أبداً بقوات تركيا، ووضع أنقرة الإقليمي الحسّاس بعد فصل إقليمين كرديين في سوريا والعراق، لا يتوجه مطلقا لبسط هذا النوع من النفوذ المتمدد الذي يروجه أنصار عرب سُذج لتركيا، أو خصومها في المنطقة.
ومسألة القاعدة المصرية المقترحة في البحرين، كانت مرفوضة قديما من دول الخليج العربي، منذ العهد الناصري لتفضيلهم التواجد الغربي، والاصطدام الذي كان وارداً مع تركيا في قطر، كان مرتبطاً فقط مع عملية الغزو للضفادع البشرية لقوات الرئيس السيسي ضد قطر، ضمن خطة الاجتياح العسكري المعادية لقطر.
أما قرار إقامة القاعدة البحرية كتأمين مصري عربي للبحرين، فهو سيواجه حالة التمدد الإيراني وتطورات الداخل، بعد استثمار إيران لانتكاسة حزيران الخليجية، وليس لقطر ولا تركيا حسب ما نراقبه أي معارضة في ذلك.
فهو قرار سيادة قومي، والموقف العربي الشعبي القديم، لم يكن يعارض دور مصر في الحفاظ على توازن قومي للخليج، إنما القضية كانت في رفض الغرب وحكومات الخليج هذا التوازن، فسماحهم بذلك لا علاقة لأنقرة به مطلقا، وهو سيخضع لتقدير موقف دول المحور مع حلفائهم الغربيين.
كل ذلك يلاقي أزمة جديدة لو تطور الأمر في اليمن خلال الأسابيع القادمة، وتمت تنحية الشرعية ونُفذت مفاوضات عودة صالح ونجله، ووضِعَ الجنوب اليمني تحت إدارة شركة تجارية، قد تصطدم بالقاعدة العائدة أو الموظفة عبر المخابرات الإقليمية.
وترك الحوثيين صالح، يأخذ زمام المبادرة وتفريغهم لحرب دينية أهلية مع الإصلاح اليمني، ليس مساراً سهلا تمرره إيران، كما يظن البعض، وإن كان لعلي صالح دوره القوي وأذرعته المتعددة، لكن الوارد أيضاً، أن يأخذ صالح صفقة ابوظبي ويوظفها لتموضعه الجديد، ويبدأ حملة احتواء جديدة تخسر بها السعودية مرة أخرى بعد خسارة رهان الحرب.
إن هذه الاضطرابات الواسعة، مع إعلان جديد لحملة على الإسلاميين في الخليج، وإطلاق فكرة حرق الحجاب لإقناع الغرب بمساحة اعتدال متعسّف، ممكن أن تُشعل التطرف من جديد، والذي يتزامن مع انسحاب داعش من الموصل والرقة بعدد قوات كبير نسبيا، لم يرصدوا في الأسر ولا القتل.
وغياب أي أُفق اصلاح ديمقراطي، وحصار الحريات في المنطقة، وعلو كعب الملاعنات اللا أخلاقية تزداد به الأجواء اشتعالا.
وهنا السؤال أليس من الأولى في ظل هذه الخسائر، ربط بطاقات المصالح مع تركيا والتفكير المعتدل في أوروبا وخاصة في برلين عبر قاعدة مصالح ذكية، والتنسيق بين الرياض وعُمان والكويت، لوقف آثار خسائر الأزمة، بمصالحة نسبية مع قطر، بدلاً من مزيد من الحرائق التي تُقرّب أكثر فأكثر دول الخليج لخريطة تقسيم دموية، يحصدها الغرب وشريكه الإيراني الجديد.
بقلم : مهنا الحبيل
لكن الخروج من عنق الزجاجة لعسكرة القضية كان انفراجا مهما، وإن كان مستوى الخسائر السياسية للأمن القومي للخليج العربي، قد دخل في أوضاع خطيرة، تتناسل جراء هذا التصعيد الكارثي، والذي حقق إضعافا واسعا للممانعة القومية للخليج العربي في مدة قصيرة، جعلت كل الأطراف تراهن على حصة من واقعه الجديد، الذي آلت اليه نكسة حزيران الخليجية.
وإعلان دول المحور في لقاء القاهرة عبر وزير الخارجية المصري، إنهاء مهمة الشيخ صباح الأحمد كرسالة ضمنية، كان أحد هذه المؤشرات، غير أن الترويكة الدولية لم تتعامل مع هذا الإعلان بل على العكس، أعادت ضخ الثقة في مبادرة الشيخ صباح، والتي لو كُفل لها أن تُعطى مساحة داخل البيت الخليجي، بتنحية مطالب التصعيد التي تزامنت مع التهديد العسكري لمشروع تأميم قطر، لكانت الخسائر أقل بكثير.
وخاصة حين تُجنب تلك القائمة كلياً، ويُدخل في مفاوضات ثنائية بين الرياض والدوحة في الملفات الثلاث الحساسة، والتي ثبت من خلال تعاطي الاعلام السعودي لها، أنها مصدر توتر بين الدوحة والرياض، وقد سبق أن شرحناها بالتفصيل في مقالات الوطن عن الأزمة، وقد تعود مثل هذه المفاوضات برعاية كويتية لكن ليس قريبا في أرجح الآراء.
المهم أن التدويل الجديد، ركز على تثبيت الحوار كقاعدة لحل الأزمة، واغلاق ملف الاجتياح العسكري، والتفاهم الثلاثي بين برلين وباريس ولندن، مع وزير الخارجية الأميركي الذي اُعطي صلاحيات تسوية الملف، بعد خسارة ترامب لدعم المشروع السابق تؤكد هذا المسار.
هنا يبدو لنا قضية مهمة، وهو الدور الإنجليزي الخاص الذي تلعبه لندن في المنطقة، وفي تاريخ التشكل السياسي لكل دول الخليج العربي قاطبة، وزيارة وزير خارجيتها تحت إطار البروتوكول المعروف، لتنسيق واشنطن مع لندن في قضايا الخليج العربي.
وهو بروتوكول ثابت تجاوزه ترامب بتنسيق إسرائيلي مع حلفائه في أزمة الخليج، فاختلطت ملفات كبيرة، أمام الموقف الدولي، وبالتالي كادت خيوط اللعبة أن تفلت كليا من الغرب، وتُهيىء للعهد الصيني الروسي الجديد، هنا تقوم عملية إعادة ملف الأزمة إلى مسار غربي تحالفي مصلحي للغرب، يعود له ترامب.
وعدم طرح مفهوم مصالحة خليجي ولكن تهدئة كما قال الوزير البريطاني، هو مسار متوقع اليوم، لحجم الصراع الذي انتهك كل الأعراف وخاض في كل الأعراض المحرمة، لكن القصة ليست هنا، وإنما في المعاني السياسية والاستراتيجية العميقة التي تسببت بها الأزمة، فتحرير المصالحة، بعد التركيز العلني الرسمي، أن المهمة اسقاط نظام حكم دولة من أعضاء الخليج، أو اجتياحه وتهديد العضوين الآخرين، لا يمكن تجاوزها في قناعة أصحاب القرار، ولا بنية الدول ومراكز دراساتها.
والاشارة الخجلة، التي صدرت من أمانة مجلس التعاون الخليجي بدعوة موظفي قطر مباشرة أعمالهم في مقرها، قد تكون محاول للملمة بعض الخسائر، لكن واقع المجلس وفشله الذريع لا يسمح بذلك، وانما ببقائه برتوكولياً، كهيكل يحفظ لشعوب الخليج العربي روابطهم الاجتماعية، وقد تكون نقطة الالتقاء المركزية بين كل أعضائه، وهي قضية حرصت عليها الكويت، كمحور للاعتدال الخليجي، وستدفع باتجاهها.
ولم يصدر من الدوحة، رغم المشاعر الشعبية الغاضبة، ما يُشير إلى رغبتها في الانسحاب من هذا المجلس، وإن أدانت صمته، في كل الاحول سيبقى وجوده بروتوكوليا، مع إدراك الشعوب لأزمته العميقة، إضافة إلى قضية بحث الدور المصري الجديد فيه، وكيف سيتم معالجته، هل هو داخل المجلس أو بقاء القاهرة كشريك مع دول المحور، ويُترك المجلس الخليجي حسب ميثاقه.
هذا التصدع الواسع، تزامن مع تقدم إيران في جبهة سوريا، حتى مع تنفيذ الاتفاق الروسي الأميركي لكانتونات التقسيم، فإيران هي القوة الإقليمية الباقية في داخل المشهد، ومؤسسات النظام، وقادرة على هيكلة النظام من داخله، ثم هي تملك الطوق الإقليمي في لبنان والعراق، وتستطيع حرف الاتفاق الدولي للتقسيم الفدرالي أو الشامل لمصلحتها.
وانحسار الدور التركي الذي انعكست عليه اخطاؤه السابقة، في اهمال قضية الجيش الحر منذ 2012، وتحالف كل الأطراف ضد تركيا اليوم بلا استثناء، يتزامن اليوم، مع تحريك توتر سياسي للقضية الكردية داخله، ومع فتنة اجتماعية تسعى لنقض الموقف الأخلاقي والإنساني الكبير، الذي اتخذته تركيا لصالح الشعب السوري.
لكن فُرص تقويض تركيا سياسيا ضعيفة، وإن دخلت أطوار تصعيد اعلامي، وأنقرة اليوم، بدأت تدرك صعوبة التداخل، بين حلفاء غير مأمونين في قضية سوريا، وتأثير ذلك عليها، واتجهت إلى تأمين وضعها القومي مع الإقليم والعهد الدولي، وهذا يقوّي موقفها سواء في ملف المفاوضات الثنائية مع إيران، أو موقف أوروبا، الذي نسقت معه أنقرة في تأمين الخليج العربي، من حرب عسكرية كارثية، وهناك أنباء أن انقرة ستفتح صفحة جديدة مع أوروبا هي من ضرورات المصالح القومية الكبرى لها، فالتلاسن مع أوروبا لن يجدي شيئا، ولن يوقف حملات الاعلام الغربي عليها، والغيرة التاريخية من تركيا قديمة، إنما الحاجة هنا لضبط بطاقات مصالح وعلاقات توازن مع أوروبا، بات الغرب يعطيها وزناَ مهماً، خاصةً في ظل موقف أنقرة الإقليمي الجديد، بين إيران ودول الخليج العربي.
واللبس الذي يثيره بعض خصومها في الخليج، جراء حديث عاطفي من أنصارها عن موقف تركيا بنشر قواتها في قطر، والذي ثبت أنه ساهم في ردع اجتياح عسكري خطير على كل المنطقة ودولها، هي معادلات عاطفية واهمة، تستغلها بعض الأطراف ونوضح ذلك في الآتي:
1 - قرار أنقرة تفعيل اتفاق الدفاع المشترك مع قطر، مسألة استراتيجية لحليف سياسي واعلامي واقتصادي قوي، كان يعني اسقاطه التوجه لإسقاط تركيا، وهو يقوم على قرار ثابت بالفعل من الرئاسة التركية، وعزيمة مشتركة من العمق القوي في حزب العدالة، الذي يُثبت حكمه اليوم لسنوات طويلة.
وإن برزت خلافات سياسية داخلية مع المعارضة عن مستوى الديمقراطية في تركيا، وحول النظام الرئاسي، الا أن الجيش ومركز صناعة القرار مدرك لبقاء قوة التوازن الاستراتيجي، خاصة مع حليف احتاج له كقطر.
2 - ما يردده بعض المتعاطفين مع تركيا العدالة، من أن القاعدة التركية هي مدخل لنفوذ اقليمي واسع، هو وهم وخطأ، القاعدة قوة حماية إقليمية، أضحت ضرورة بعد اضطرابات واشنطن.
ولكن الموقف القطري يقوم على بقاء التوازن الدولي، خاصة مع واشنطن والحضور الفرنسي الجديد، أي أنها قوة حماية مرتبطة بأمن السلام الإقليمي لقطر، والذي كان يتجه عند اقراره، للتوازن مع إيران، ثم أصبح بعد أزمة الخليج العربي، مع المحور الخليجي ذاته.
3 - التواجد التركي الذي سيطور باهتمام مباشر ومتابعة من الرئيس أردوغان، تم ابلاغ دول الخليج العربي به، وخاصة السعودية، وأن تركيا تسعى لتأمين السلم، والمساهمة الإيجابية لكل دول الخليج العربي عبره، وليست قوة توجه لأي طرف خليجي ابتداءً، ورغم الحملة الإعلامية الشرسة، إلا أن هذا البعد تحتاج الرياض للتعاطي معه بموضوعية، في ظل اضطرابات كبيرة سيَكشف عنها ما بعد الأزمة.
4 - من الحقائق المهمة، أن حجم التواجد الغربي، في منطقة الخليج العربي الضخم جدا لا يُقارن أبداً بقوات تركيا، ووضع أنقرة الإقليمي الحسّاس بعد فصل إقليمين كرديين في سوريا والعراق، لا يتوجه مطلقا لبسط هذا النوع من النفوذ المتمدد الذي يروجه أنصار عرب سُذج لتركيا، أو خصومها في المنطقة.
ومسألة القاعدة المصرية المقترحة في البحرين، كانت مرفوضة قديما من دول الخليج العربي، منذ العهد الناصري لتفضيلهم التواجد الغربي، والاصطدام الذي كان وارداً مع تركيا في قطر، كان مرتبطاً فقط مع عملية الغزو للضفادع البشرية لقوات الرئيس السيسي ضد قطر، ضمن خطة الاجتياح العسكري المعادية لقطر.
أما قرار إقامة القاعدة البحرية كتأمين مصري عربي للبحرين، فهو سيواجه حالة التمدد الإيراني وتطورات الداخل، بعد استثمار إيران لانتكاسة حزيران الخليجية، وليس لقطر ولا تركيا حسب ما نراقبه أي معارضة في ذلك.
فهو قرار سيادة قومي، والموقف العربي الشعبي القديم، لم يكن يعارض دور مصر في الحفاظ على توازن قومي للخليج، إنما القضية كانت في رفض الغرب وحكومات الخليج هذا التوازن، فسماحهم بذلك لا علاقة لأنقرة به مطلقا، وهو سيخضع لتقدير موقف دول المحور مع حلفائهم الغربيين.
كل ذلك يلاقي أزمة جديدة لو تطور الأمر في اليمن خلال الأسابيع القادمة، وتمت تنحية الشرعية ونُفذت مفاوضات عودة صالح ونجله، ووضِعَ الجنوب اليمني تحت إدارة شركة تجارية، قد تصطدم بالقاعدة العائدة أو الموظفة عبر المخابرات الإقليمية.
وترك الحوثيين صالح، يأخذ زمام المبادرة وتفريغهم لحرب دينية أهلية مع الإصلاح اليمني، ليس مساراً سهلا تمرره إيران، كما يظن البعض، وإن كان لعلي صالح دوره القوي وأذرعته المتعددة، لكن الوارد أيضاً، أن يأخذ صالح صفقة ابوظبي ويوظفها لتموضعه الجديد، ويبدأ حملة احتواء جديدة تخسر بها السعودية مرة أخرى بعد خسارة رهان الحرب.
إن هذه الاضطرابات الواسعة، مع إعلان جديد لحملة على الإسلاميين في الخليج، وإطلاق فكرة حرق الحجاب لإقناع الغرب بمساحة اعتدال متعسّف، ممكن أن تُشعل التطرف من جديد، والذي يتزامن مع انسحاب داعش من الموصل والرقة بعدد قوات كبير نسبيا، لم يرصدوا في الأسر ولا القتل.
وغياب أي أُفق اصلاح ديمقراطي، وحصار الحريات في المنطقة، وعلو كعب الملاعنات اللا أخلاقية تزداد به الأجواء اشتعالا.
وهنا السؤال أليس من الأولى في ظل هذه الخسائر، ربط بطاقات المصالح مع تركيا والتفكير المعتدل في أوروبا وخاصة في برلين عبر قاعدة مصالح ذكية، والتنسيق بين الرياض وعُمان والكويت، لوقف آثار خسائر الأزمة، بمصالحة نسبية مع قطر، بدلاً من مزيد من الحرائق التي تُقرّب أكثر فأكثر دول الخليج لخريطة تقسيم دموية، يحصدها الغرب وشريكه الإيراني الجديد.
بقلم : مهنا الحبيل