يدخل روسو في مساحة تجديدية في الفتح على ثقافة الطفولة، يستدعي هنا بقوة رياضة الأذهان وتنمية العلاقة مع الحواس، في رفع رصيد تتبعها، واستثمارها لها، يؤكد روسو أهمية رياضة الأبدان، لكنه يرفض التوسع فيها على حساب رياضة الحواس، والتي يدعو لوضعها في سباق معرفي تفاعلي أيضا.
يضرب روسو مثالاً بمساحة الاستشعار المعطلة، عند المبصرين في قدرة بقية الحواس على معرفة أو تقدير واقع مكاني أو ظرفي ما، لا يوصل إليه فقط بالبصر، ويقول إن السمع يُستشعر تقديره، ويضرب مثالا بأنك لو دخلت مكاناً مظلماً، وصفقت فيه، لعلمت حدوده من ارتداد الصوت.
ينبه روسو بأن الإسراف في تقدير الرياضة البدنية قد يتسبب بإشكال أو عاهة، ومنها رفع الثقل دون اعتماد الرافعة، وحديثه هنا عن الوسيلة البدائية في هذا المجال، وأن الطفل يجب ألا يتهور باستخدام رافعة غير متناسقة تؤثر عليه.
ويصر روسو على تدريب الحواس الذي يُفضي إلى قوة الإدراك وتحفيز الوعي والحذر، بانضباط متوازن، وأن هذه الحواس النشطة المشتعلة، هي من يقود الطفل إلى تقدير مصلحته ومنفعته، ولذلك يضعها في سياق سباقات مقترحة لتشجيع قدرة الطفل على تقدير الأمور، من رفع الأثقال إلى مواجهة الهموم.
وهو مسار تفكيري مميز لنظريات إميل، ويشير روسو إلى أن عدم تحفيز وعي الحواس، يرتد على التاريخ النفسي للطفل، ويضرب مثلاً بالقلق من الليل، وانه شخصياً يعرف نخبة من المثقفين، بل والفلاسفة، ينهارون من الخوف في الليل، وتعجز قدرتهم الفكرية عن تقدير حقيقة الليل وأنه لا يُخيف، بقدر ما أنه ترسخ في طفولتهم هذا القلق، وكان يسخر عن عمد من هذه العقول الفزعة.
كيف تفقه تحرير مناطات المعرفة وحواسها، في حين أن أمراً يسيراً يُفسَّر بالبداهة يُرعبها، ويسقط قلبها من الخوف؟
ولذلك يوصي بالتوسعة في الألعاب الليلية للطفل، ويشدد على أن تكون في وضع البهجة، حتى يزول من الطفل مساحة الرعب من الظلام، ولكنه شخصياً يحتج بحادثة وقعت له، حين اختبره أحد القساوسة للذهاب في الليل، لإحضار التورات من على منصة الراهب في الكنيسة، بعد أن أعطاه المفتاح، وأن هدف الراهب توجيه رسالة له، حينما سخر من زميل له يخاف من الليل، أنجز روسو التحدي لكن بعد وجبة رعب، وانسحاب وإقدام.
وهو يدور هنا على ضرورة تعويد الطفل الخروج من دوائر الخوف، بالتقدم العملي للتجربة، وتنظيم سباقات لصقل روحه والتقدم إلى مساحة الغموض، ويبدو الأمر في مجمله مستساغاً وايجابيا، وهو يواصل ضرب الأمثلة في تدريب إميل (الافتراضي) وصناعة وجدانه، واستفزاز مشاعره، بأن الفوز القوي هو ما كان في مضمار ينتزع جائزته فيه، ويسرد قصة طويلة عن سباق نظمه لغنيمة قطعة من الحلوى، مقابل بذل جهدٍ في السباق الرياضي، وهذه الروح أو المنهج لا يختص به روسو، فروح المسابقة ودورها في تعليم الطفل وتهذيبه لها إرث بشري قديم.
لكن روسو يقارن بعد ذلك هذه المعرفة المكتسبة من تدريب الحواس، بأرتال الكتب التي تُقدم للطفل، معترضاً ساخراً منها، محتجاً بان الطفل سيكتسب علوماً لكن بلغة بسيطة، ومعارف جيدة لحياته، عبر تحفيز حواسه، لن يُعبّر عنها بمنطق علمي، لكن حصيلتها قوية فيها، وهو يتحدى منظومة ومنصات العلم الحديث.
هذه النظرية لروسو يحددها لعمر الطفولة قبل 12 غالباً، ويستطرد في الدفاع عنها مقابل إغراقه بعلوم الكتب، وهنا يعلن روسو بقوة عن هدفه، بأنها معرفة تعزز قوة شخصيته، وتقديراته للأمور وشجاعته، وأنه سيتعامل في طلبه لخدمة من الملك كما يتعامل الطفل مع الخادم.
لاحظ هنا تركيز عقل روسو على العقد الاجتماعي، وتهيئة الفرد له، وتسوية الرصيف في سبيل القوة الشخصية المناضلة للحقوق الدستورية، وهو ما يجعله أحياناً يُبالغ في نفي أهمية العلم والقراءة، كما أنهُ يعيد مفاهيم ثورته على الأكاديمية الغربية، وبالذات في جمهورية جنيف ومملكة فرنسا.
حقائق مخلوطة بروح رغبوية ثائرة تحتاج تفكيكاً وفرزاً، واستشرافا دقيقا في إعادة تنظيم المنهج التربوي الأفضل للطفولة، تضمن بقاء روح فطرته، وصقل مواهبه وتدريب حواسه، ورفع سمات المعرفة في قراءته بما يناسب عمره، والأمر في كل الأحوال منوط بنجاح هذه النظريات في تحقيق أعلى درجات التهذيب وصقل شخصية الإنسان، دون أن تفترض فيهم كلهم بأنهم سيتحولون إلى مقاومة سياسية عنيفة، فهذا الأمر لا يملك روسو ولا غيره، حسم تحقيق مآله فإميل الافتراضي غير إميل الواقعي.