مع بدء العد التنازلي لدخول موسم الحج، الركن الخامس في الإسلام، مازالت حكومة «خادم الحرمين الشريفين» تصر على معاملة المسلمين القادمين من دولة قطر معاملة مختلفة عن بقية المسلمين من كل أرجاء المعمورة، بوضع الصعوبات والمنغصات في طريقهم، مما يجعلهم غير قادرين وغير آمنين في القدوم إلى أطهر بقاع الأرض، في ظل شحن وحقد واحتقان وتحريض لم يسبق له مثيل، تقوده وسائل إعلامية برعاية حكومية!
يقول الله عز وجل في محكم تنزيله «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، وقد قيل الكثير في تفسير هذه الآية الكريمة، ومعنى «استطاع سبيلا» أي وجد سبيلا وتمكن منه.
وللعلماء في تفسير «السبيل» أقوال، اختلفت ألفاظها واتحدت أغراضها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: السبيل: القدرة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم.
إذن، فإن من يسافرون للحج تتفاوت قدراتهم المالية والجسدية، فالبعض لا يستطيع تحمل نفقات السفر جوا فيلجأ للسفر برا، والبعض لا يستطيع أن يتحمل حتى نفقات السفر برا فأباح له العلماء العمل أثناء سفره ليكسب قوته، ويتمكن من أداء الفريضة.
هل في وسع أحد منع هؤلاء عن الحج؟
الإجابة ليست صعبة، ولا خلاف عليها، فقد أجمع جمهور العلماء على أن من يمنع غيره عن أداء النسك الواجب عليه بغير حق فهذا غير جائز شرعاً، قال تعالى: «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً» (الحج: 25).
هذه المقدمة كان لا بد منها في معرض الحديث عن الصعوبات التي تواجه حجاج قطر، وهي القضية التي شغلتنا جميعا، ولا أعتقد أن هناك من يخالف ما ذكرته فيها، فالحج هو إحدى الشعائر الدينية الإسلامية، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، وفرض على كل مسلم قادر على أدائه، وبالطريقة التي تناسبه وتناسب إمكاناته، وهذا يعني أنه لا يحق لأي جهة أو سلطة منع توافد الحجاج القادمين من قطر عبر أي وسيلة يختارونها، سواء كانت عن طريق البر أو الجو، كلٌ حسب قدراته، وما نراه اليوم يخالف ما تم ذكره، وهو يندرج في باب العرقلة والتعقيد لصد مسلمين ومنعهم عن أداء هذه الفريضة المقدسة، وهم أبناء بلد جار مسالم، لم يظهر منهم ما يستدعي المنع، وصدهم عن سبيل الله، وقد ذكر القرآن الكريم أصنافا أربعة ممن يصدون الناس عن سبيل الله، وهم: النفس، والشيطان، والكافرون، والمنافقون.
والذين يصدون حجاجنا اليوم، أخشى ما أخشاه أنهم يتحملون أوزارا ثقيلة، على اعتبار أنه لا يوجد على الإطلاق ما يبرر أفعالهم، لا شرعا ولا أخلاقا، وفي حين يتم وضع العراقيل أمام حجاجنا، فإننا نتابع جميعا كيف أن حجاج إيران، التي حاصروا قطر من أجلها، يستعدون للحج بالحصة التي تقنعها، وبالطريقة التي اعتادت عليها، ليس هذا فحسب، بل وصلت عناصر من الحشد الشعبي للعمرة مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، ورأينا وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، كيف تم استقباله بالأحضان خلال زيارته للسعودية، بناء على دعوة رسمية، وللتذكير فقط.. فإن الأعرجي كان قد دعا إلى نصب تمثال لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق، وهو أيضا أحد قادة ميليشيا «منظمة بدر» المدعومة إيرانياً، وهو الشخصية المثيرة للجدل في الوسط العراقي، بسبب دوره في الإرهاب، وتأجيج المواجهات الطائفية في العراق تحت غطاء محاربة داعش.
لسنا بصدد الحديث عن الأعرجي، والشأن العراقي مسؤولية العراقيين أولا وقبل كل شيء، لكننا بصدد موضوع منع حجاجنا وعرقلة وصولهم إلى الحج، في حين تُفتح أبواب المملكة العربية السعودية حتى لأكثر الناس عداء لها.
هذه ازدواجية لا يمكن فهمها، وتناقضات يصعب هضمها، ومع ذلك فهي شأن السعوديين، لكن ليس من شأنهم أن يمنعوا حجيجنا ويضعوا العراقيل التي تحول دون تأدية فريضتهم، بلا سبب معقول أو مفهوم، وكل ما عرف عن هؤلاء الحجيج حرصهم على تأدية مناسكهم بهدوء وطمأنينة ونظام وانتظام.
هم قبل كل ذلك أشقاء، وهم الأقرب للشعب السعودي، تجمعهم علاقات القربى والإخاء والدين والعروبة، لكن كل ذلك لم يشفع لهم أمام قرارات حكومة «خادم الحرمين الشريفين»، التي اختارت حرمانهم من تأدية فريضتهم، ووضع الصعوبات في طريقهم.. لأغراض سياسية، وأسباب دنيوية ما أنزل الله بها من سلطان!
وبالحديث عن لقب «خادم الحرمين الشريفين»، ربما يذكر القارئ الكريم أن أول ذِكر له ورد على لسان يوسف بن رافع بن شداد (ت 632 هـ)، حيث لقّب به السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ) في كتابه «النوادر السلطانية»، فقال: خادم الحرمين الشريفين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادي.
كما أنه يوجد نقش على قبة يوسف، الواقعة في الجهة الجنوبية لصحن قبة الصخرة المشرفة بين القبة النحوية ومنبر برهان الدين، جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على محمد النبي وآله. أمر بعمارته وحفر الخندق مولانا صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، خادم الحرمين الشريفين وهذا البيت المقدس، أبو المظفر يوسف بن أيوب محي دولة أمير المؤمنين، أدام الله أيامه ونصر أعلامه».
ثم اتخذ اللقب الخليفة العثماني سليم الأول، بعد أن سمع خطيب مسجد دمشق يدعوه بحاكم الحرمين الشريفين في خطبة الجمعة، فقد ورد في كتاب «الإشراف على المعتنين بتدوين أنساب الأشراف»، قول الشريف فوزان العبدلي أن شريف مكة قَدَّم للسلطان العثماني سليم الأول سنة 923 هـ لقب «خادم الحرمين».
وكان أول من اتخذه من بعد السلطان سليم الأول هو الملك فهد بن عبدالعزيز عام 1986، حيث أعلن الملك فهد تغيير لقب صاحب الجلالة ليصبح «خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود»، ليكون أول ملك للمملكة العربية السعودية يلقب بهذا اللقب، ومعناه القائم على خدمة الحرمين الشريفين، المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
هذا اللقب يفرض مسؤولية مضاعفة تجاه السهر على حجاج بيت الله الحرام، والقيام على أمورهم، وتسهيل وصولهم، وتذليل العقبات التي تحول دون تمكنهم من إتمام هذه الفريضة، ومما يوجع القلب أن تصدر قرارات العرقلة عن حكومة خادم الحرمين لأسباب خلافية، لا علاقة للحجيج بها، فكانت القرارات التي سمعنا بها، وهي تتناقض تماما مع الآية الكريمة التي بدأنا بها «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».
تحدثنا عن الحجاج الإيرانيين والعراقيين، ومن هؤلاء من يرى في الحج وسيلة للتعبير عن مواقف وآراء سياسية، وسمعنا من خلال وسائل إعلام، وتحديدا بلومبيرغ، أن إسرائيل تبحث فتح خطوط مباشرة من تل أبيب إلى جدة للحجاج من عرب 48، من باب التسهيل عليهم.
وإذا كانت السعودية ترى أن من واجبها، وهو كذلك، تسهيل وصول حجاج بيت الله الحرام من كل دول العالم، فإننا لا نفهم لماذا تُعسِّر على أهل قطر، وتحرض عليهم في الإعلام من خلال خطاب الكراهية، وتتحكم في الحج وتقوم بتسييسه، رغم جهودها ووعودها لاستقبال كافة المسلمين بمن فيهم القادمون من طهران وتل أبيب!.
وعلى ذكر إسرائيل، شاهدنا في الإعلام المطبّل تسارع حكومات دول عربية على نسب قرار وقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بناء بوابات إلكترونية حول المسجد الأقصى لجهود الملك، واتصال الرئيس، وتوجيه القائد، كلٌ حسب صفته ومكانته وطريقة تعاطي وسائل إعلامه مع الخبر، على الرغم من أن السبب الحقيقي لم يذكر في هذه الأبواق العربية، وهو أن الفضل بعد الله، سبحانه وتعالى، يعود للمرابطين الفلسطينيين والمقاومين الأبطال، الذين تصدوا لهذا المشروع الفاصل، حتى أصبح قرارا باطلا..!
والسبب الذي نستنتج منه أن هذه القيادات العربية لم يكن لها دور مؤثر في إيقاف القرار، هو أنها لم تستنكر، قبل أسبوعين، إغلاق أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومنع المسلمين من الصلاة فيه، كما لم يدينوا الهجوم على غزة قبل شهر، ومن هنا تظهر الدلائل والشواهد والقرائن، فمن كان حريصا على القضية فسيكون حاضرا في كل فصولها ومشاهدها، ولا يكتب على سطر ويترك سطورا!
وعودة إلى موضوع الحج المعلّق حتى كتابة هذه السطور، والسبب أن المملكة العربية السعودية لم تسهّل الإجراءات على المسلمين القادمين من دولة قطر، بل وضعت أمامهم العديد من العراقيل، مثل عدم وجود سفارة أو قنصلية لإصدار تأشيرات لغير القطريين، ومنع استخدام العملة القطرية، وعدم استخدام المجالين الجوي والبري، على أن يكون السفر من خلال عواصم أخرى مثل الكويت ومسقط، على طريقة المثل الخليجي: «وين أذنك يا حبشي»؟!
هذا كله عدا خطاب الكراهية الذي شحنت به الشعب السعودي ضد أشقائه القطريين، مما يجعلهم عرضة للإيذاء من بعض المشحونين!
لا نفهم ذلك أبدا، ولا يوجد له أي عذر أو مبرر، وما تفعله سيجعلها في نظر العالم الإسلامي متجاوزة للضوابط المتعارف عليها، والعهود المتفق حولها، وخلاصتها عدم منع المسلمين من أداء مشاعرهم، وعدم التضييق عليهم، وهي التي تعهدت في بيانها الرمضاني الأول، عبر خارجيتها، بالحفاظ على التسهيلات المقدمة للحجاج والمعتمرين من قطر، لكنها خالفت ما تعهدت به، وأقحمت السياسة بالدين والمقدسات والشعائر، وهو أمر مذموم، غير محمود، سيفتح الباب عليها مرة أخرى بعودة المطالب التي سمعناها مرارا بتدويل الحج، ووضعه تحت إشراف دولي وأممي إسلامي.
ليس من حق أحد صد مسلم عن بيت الله الحرام، إن جاء في طائرة، أو فوق ناقة، أو راكبا حافلة، أو حتى ماشيا على قدميه، فما بالكم بحجيج قطر وأهلها الذين لم يُعرف عنهم سوى الالتزام والامتثال للقوانين، وحفظ الأمن ومساعدة الغير.. ولم تسجل عليهم حالة تجاوز واحدة طوال العقود الماضية!.
ما تفعله حكومة «خادم الحرمين الشريفين» مخالفة صريحة للقوانين والتشريعات الدولية أيضا، لكنه قبل كل ذلك مخالفة صريحة لديننا الإسلامي الحنيف، وهذا لا يحتمل اجتهاد المجتهدين، فالحق بيِّن والحرام بيِّن، كما قال رسولنا الكريم: «إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وكل ما نخشاه أن تكون هذه الضغائن، مصدرها قلوب صدت عن سبيل الله، وغاصت في ملهيات الدنيا، وتغلغصت في الفساد وأصبحت عبئا على البلاد والعباد!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
يقول الله عز وجل في محكم تنزيله «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا»، وقد قيل الكثير في تفسير هذه الآية الكريمة، ومعنى «استطاع سبيلا» أي وجد سبيلا وتمكن منه.
وللعلماء في تفسير «السبيل» أقوال، اختلفت ألفاظها واتحدت أغراضها، فسبيل القريب من البيت الحرام سهل جدا، وسبيل البعيد الراحلة والزاد، ولذلك قال مالك: السبيل: القدرة، والناس على قدر طاقتهم وسيرهم وجلدهم.
إذن، فإن من يسافرون للحج تتفاوت قدراتهم المالية والجسدية، فالبعض لا يستطيع تحمل نفقات السفر جوا فيلجأ للسفر برا، والبعض لا يستطيع أن يتحمل حتى نفقات السفر برا فأباح له العلماء العمل أثناء سفره ليكسب قوته، ويتمكن من أداء الفريضة.
هل في وسع أحد منع هؤلاء عن الحج؟
الإجابة ليست صعبة، ولا خلاف عليها، فقد أجمع جمهور العلماء على أن من يمنع غيره عن أداء النسك الواجب عليه بغير حق فهذا غير جائز شرعاً، قال تعالى: «وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً» (الحج: 25).
هذه المقدمة كان لا بد منها في معرض الحديث عن الصعوبات التي تواجه حجاج قطر، وهي القضية التي شغلتنا جميعا، ولا أعتقد أن هناك من يخالف ما ذكرته فيها، فالحج هو إحدى الشعائر الدينية الإسلامية، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، وفرض على كل مسلم قادر على أدائه، وبالطريقة التي تناسبه وتناسب إمكاناته، وهذا يعني أنه لا يحق لأي جهة أو سلطة منع توافد الحجاج القادمين من قطر عبر أي وسيلة يختارونها، سواء كانت عن طريق البر أو الجو، كلٌ حسب قدراته، وما نراه اليوم يخالف ما تم ذكره، وهو يندرج في باب العرقلة والتعقيد لصد مسلمين ومنعهم عن أداء هذه الفريضة المقدسة، وهم أبناء بلد جار مسالم، لم يظهر منهم ما يستدعي المنع، وصدهم عن سبيل الله، وقد ذكر القرآن الكريم أصنافا أربعة ممن يصدون الناس عن سبيل الله، وهم: النفس، والشيطان، والكافرون، والمنافقون.
والذين يصدون حجاجنا اليوم، أخشى ما أخشاه أنهم يتحملون أوزارا ثقيلة، على اعتبار أنه لا يوجد على الإطلاق ما يبرر أفعالهم، لا شرعا ولا أخلاقا، وفي حين يتم وضع العراقيل أمام حجاجنا، فإننا نتابع جميعا كيف أن حجاج إيران، التي حاصروا قطر من أجلها، يستعدون للحج بالحصة التي تقنعها، وبالطريقة التي اعتادت عليها، ليس هذا فحسب، بل وصلت عناصر من الحشد الشعبي للعمرة مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، ورأينا وزير الداخلية العراقي قاسم الأعرجي، كيف تم استقباله بالأحضان خلال زيارته للسعودية، بناء على دعوة رسمية، وللتذكير فقط.. فإن الأعرجي كان قد دعا إلى نصب تمثال لقائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني في العراق، وهو أيضا أحد قادة ميليشيا «منظمة بدر» المدعومة إيرانياً، وهو الشخصية المثيرة للجدل في الوسط العراقي، بسبب دوره في الإرهاب، وتأجيج المواجهات الطائفية في العراق تحت غطاء محاربة داعش.
لسنا بصدد الحديث عن الأعرجي، والشأن العراقي مسؤولية العراقيين أولا وقبل كل شيء، لكننا بصدد موضوع منع حجاجنا وعرقلة وصولهم إلى الحج، في حين تُفتح أبواب المملكة العربية السعودية حتى لأكثر الناس عداء لها.
هذه ازدواجية لا يمكن فهمها، وتناقضات يصعب هضمها، ومع ذلك فهي شأن السعوديين، لكن ليس من شأنهم أن يمنعوا حجيجنا ويضعوا العراقيل التي تحول دون تأدية فريضتهم، بلا سبب معقول أو مفهوم، وكل ما عرف عن هؤلاء الحجيج حرصهم على تأدية مناسكهم بهدوء وطمأنينة ونظام وانتظام.
هم قبل كل ذلك أشقاء، وهم الأقرب للشعب السعودي، تجمعهم علاقات القربى والإخاء والدين والعروبة، لكن كل ذلك لم يشفع لهم أمام قرارات حكومة «خادم الحرمين الشريفين»، التي اختارت حرمانهم من تأدية فريضتهم، ووضع الصعوبات في طريقهم.. لأغراض سياسية، وأسباب دنيوية ما أنزل الله بها من سلطان!
وبالحديث عن لقب «خادم الحرمين الشريفين»، ربما يذكر القارئ الكريم أن أول ذِكر له ورد على لسان يوسف بن رافع بن شداد (ت 632 هـ)، حيث لقّب به السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ) في كتابه «النوادر السلطانية»، فقال: خادم الحرمين الشريفين أبي المظفر يوسف بن أيوب بن شادي.
كما أنه يوجد نقش على قبة يوسف، الواقعة في الجهة الجنوبية لصحن قبة الصخرة المشرفة بين القبة النحوية ومنبر برهان الدين، جاء فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم وصلواته على محمد النبي وآله. أمر بعمارته وحفر الخندق مولانا صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، خادم الحرمين الشريفين وهذا البيت المقدس، أبو المظفر يوسف بن أيوب محي دولة أمير المؤمنين، أدام الله أيامه ونصر أعلامه».
ثم اتخذ اللقب الخليفة العثماني سليم الأول، بعد أن سمع خطيب مسجد دمشق يدعوه بحاكم الحرمين الشريفين في خطبة الجمعة، فقد ورد في كتاب «الإشراف على المعتنين بتدوين أنساب الأشراف»، قول الشريف فوزان العبدلي أن شريف مكة قَدَّم للسلطان العثماني سليم الأول سنة 923 هـ لقب «خادم الحرمين».
وكان أول من اتخذه من بعد السلطان سليم الأول هو الملك فهد بن عبدالعزيز عام 1986، حيث أعلن الملك فهد تغيير لقب صاحب الجلالة ليصبح «خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود»، ليكون أول ملك للمملكة العربية السعودية يلقب بهذا اللقب، ومعناه القائم على خدمة الحرمين الشريفين، المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف.
هذا اللقب يفرض مسؤولية مضاعفة تجاه السهر على حجاج بيت الله الحرام، والقيام على أمورهم، وتسهيل وصولهم، وتذليل العقبات التي تحول دون تمكنهم من إتمام هذه الفريضة، ومما يوجع القلب أن تصدر قرارات العرقلة عن حكومة خادم الحرمين لأسباب خلافية، لا علاقة للحجيج بها، فكانت القرارات التي سمعنا بها، وهي تتناقض تماما مع الآية الكريمة التي بدأنا بها «ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا».
تحدثنا عن الحجاج الإيرانيين والعراقيين، ومن هؤلاء من يرى في الحج وسيلة للتعبير عن مواقف وآراء سياسية، وسمعنا من خلال وسائل إعلام، وتحديدا بلومبيرغ، أن إسرائيل تبحث فتح خطوط مباشرة من تل أبيب إلى جدة للحجاج من عرب 48، من باب التسهيل عليهم.
وإذا كانت السعودية ترى أن من واجبها، وهو كذلك، تسهيل وصول حجاج بيت الله الحرام من كل دول العالم، فإننا لا نفهم لماذا تُعسِّر على أهل قطر، وتحرض عليهم في الإعلام من خلال خطاب الكراهية، وتتحكم في الحج وتقوم بتسييسه، رغم جهودها ووعودها لاستقبال كافة المسلمين بمن فيهم القادمون من طهران وتل أبيب!.
وعلى ذكر إسرائيل، شاهدنا في الإعلام المطبّل تسارع حكومات دول عربية على نسب قرار وقف سلطات الاحتلال الإسرائيلي بناء بوابات إلكترونية حول المسجد الأقصى لجهود الملك، واتصال الرئيس، وتوجيه القائد، كلٌ حسب صفته ومكانته وطريقة تعاطي وسائل إعلامه مع الخبر، على الرغم من أن السبب الحقيقي لم يذكر في هذه الأبواق العربية، وهو أن الفضل بعد الله، سبحانه وتعالى، يعود للمرابطين الفلسطينيين والمقاومين الأبطال، الذين تصدوا لهذا المشروع الفاصل، حتى أصبح قرارا باطلا..!
والسبب الذي نستنتج منه أن هذه القيادات العربية لم يكن لها دور مؤثر في إيقاف القرار، هو أنها لم تستنكر، قبل أسبوعين، إغلاق أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومنع المسلمين من الصلاة فيه، كما لم يدينوا الهجوم على غزة قبل شهر، ومن هنا تظهر الدلائل والشواهد والقرائن، فمن كان حريصا على القضية فسيكون حاضرا في كل فصولها ومشاهدها، ولا يكتب على سطر ويترك سطورا!
وعودة إلى موضوع الحج المعلّق حتى كتابة هذه السطور، والسبب أن المملكة العربية السعودية لم تسهّل الإجراءات على المسلمين القادمين من دولة قطر، بل وضعت أمامهم العديد من العراقيل، مثل عدم وجود سفارة أو قنصلية لإصدار تأشيرات لغير القطريين، ومنع استخدام العملة القطرية، وعدم استخدام المجالين الجوي والبري، على أن يكون السفر من خلال عواصم أخرى مثل الكويت ومسقط، على طريقة المثل الخليجي: «وين أذنك يا حبشي»؟!
هذا كله عدا خطاب الكراهية الذي شحنت به الشعب السعودي ضد أشقائه القطريين، مما يجعلهم عرضة للإيذاء من بعض المشحونين!
لا نفهم ذلك أبدا، ولا يوجد له أي عذر أو مبرر، وما تفعله سيجعلها في نظر العالم الإسلامي متجاوزة للضوابط المتعارف عليها، والعهود المتفق حولها، وخلاصتها عدم منع المسلمين من أداء مشاعرهم، وعدم التضييق عليهم، وهي التي تعهدت في بيانها الرمضاني الأول، عبر خارجيتها، بالحفاظ على التسهيلات المقدمة للحجاج والمعتمرين من قطر، لكنها خالفت ما تعهدت به، وأقحمت السياسة بالدين والمقدسات والشعائر، وهو أمر مذموم، غير محمود، سيفتح الباب عليها مرة أخرى بعودة المطالب التي سمعناها مرارا بتدويل الحج، ووضعه تحت إشراف دولي وأممي إسلامي.
ليس من حق أحد صد مسلم عن بيت الله الحرام، إن جاء في طائرة، أو فوق ناقة، أو راكبا حافلة، أو حتى ماشيا على قدميه، فما بالكم بحجيج قطر وأهلها الذين لم يُعرف عنهم سوى الالتزام والامتثال للقوانين، وحفظ الأمن ومساعدة الغير.. ولم تسجل عليهم حالة تجاوز واحدة طوال العقود الماضية!.
ما تفعله حكومة «خادم الحرمين الشريفين» مخالفة صريحة للقوانين والتشريعات الدولية أيضا، لكنه قبل كل ذلك مخالفة صريحة لديننا الإسلامي الحنيف، وهذا لا يحتمل اجتهاد المجتهدين، فالحق بيِّن والحرام بيِّن، كما قال رسولنا الكريم: «إن الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وكل ما نخشاه أن تكون هذه الضغائن، مصدرها قلوب صدت عن سبيل الله، وغاصت في ملهيات الدنيا، وتغلغصت في الفساد وأصبحت عبئا على البلاد والعباد!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول