+ A
A -
كنت قد توقعت في مقال سابق أن يكون بطل الحلقة المقبلة، في مسلسل مفاجآت السياسة السعودية وتحولاتها، هو حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، المصنّف إرهابيا خليجيا وعربيا، أو قاسم سليماني قائد فيلق القدس، حتى تتصاعد وتيرة الأحدات، ويرتفع خطها الدرامي، فتحقق رقما قياسيا في المشاهدات، وقبل ذلك في المفاجآت..!
لكن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عمل حركة «من الآخر»، كما يقولها شباب السناب، وأحرق المسلسل وباقي حلقاته، وخلّص العرض
قبل موعده، وصدم المتابعين والمراقبين، وحقق أعلى نسبة تناقضات، وليست مشاهدات، مستفيدا من مهارته في المراوغة، وتغيير المواقف، ونشر الإشاعات، وتأليف الاتهامات، ووظفها جميعا في إخراج مشهد كوميدي تراجيدي مختلط، عندما «درعم» باتجاه وزير خارجية إيران جواد ظريف، وصافحه بحرارة، وأرسل له الابتسامة، في جو تغلفه الحميمية والمشاعر المتبادلة، وهو قبل هذا الموعد بساعات كان «يزابد» في المنامة، ويقول الويل والثبور وعظائم الأمور لمن يبني علاقة مع إيران، فهذه دولة مارقة فاسدة وتنشر الإرهاب، وتزعزع الأمن وتتدخل في شؤوننا ويجب إيقافها عند حدها.
ولم نكن نفهم أنه يقصد إيقافها بالأحضان، ومصافحة فابتسامة فلقاء.. ونسي الجبير تهديده ووعيده الذي يبدو أنه لم يتجاوز محل حلويات شويطر في المنامة.. فجاءت أصداؤه حميمية لطيفة بمصافحة سلام، وسؤال عن الأحوال الشخصية، ولا أستبعد أن الجبير خاطب نظيره الإيراني باللغة الفارسية، ورحب به قائلا «خوش امديد»، ورد عليه ظريف: «هلا والله»..!!
لكن كثيرا من السعوديين يقولون في صدورهم لحظة المصافحة والابتسامة والصورة: «أفا ياذا العلم»!
كما نسي الجبير قبل ذلك أن هذا الرجل الذي صافحه واحتضنه وابتسم له هو نفسه الذي يتهم السعوديون بلاده بمحاولة اغتياله، عندما كان سفيرا للمملكة في واشنطن 2011، كما أنها التي أحرقت سفارتهم في طهران، ويرون أنها تصدر الإرهاب، وتزعزع الأمن والاستقرار، ومع ذلك مصافحتها حلال زلال، والتعاطف مع قطر حرام ومنكر!!
وكما هي الصورة عن طهران فإن لها «كوبي» في بغداد، فالسعودية ترى طوال عقود من الزمان أن الأحزاب الشيعية العراقية صورة نمطية لنظيرتها الإيرانية، وأنها امتداد للتوسعات والأحلام الفارسية في المنطقة العربية، فكانت تتوجس منها ولا تتعاون معها..
واليوم، ويا سبحان الله، أصبح قيادات الحشد الشعبي والتيار الصدري في مقدمة المرحب بهم في السعودية، يحظون بضيافة ملكية ولقاءات رسمية وودية، وهدايا بأرقام فلكية، كما حصلوا مع نظرائهم الإيرانيين على عشرات الآلاف من تأشيرات الحج والعمرة، فيما وضعوا العراقيل والمعوقات أمام أهل قطر، الذين لا يزيدون على 2000 حاج سنويا، وحاصروها من أجل علاقتها المزعومة مع إيران، التي يتودد لها الجبير، ويصور مع وزير خارجيتها، فيما يستقبل ولي العهد السعودي حلفاءها ووكلاءها في العراق!
لم يُعرف عن السعودية اهتمامها بالإنتاج السينمائي، ولا توجد فيها دور عرض، باستثناء تلك الخاصة بالموظفين الأجانب في شركة ارامكو في مجمعاتهم السكنية، كما تقوم بعض مقرات الأندية الأدبية والثقافية بعرض بعض الأفلام، لذلك سيبدو غريبا للغاية أن تنتج الرياض فيلما يفوز بجائزة الأوسكار، أو السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي العالمي، أو منافسة هوليوود، عبر إنتاج فيلم أكشن عنوانه «احتواء الشيعة العرب»، وهي ليس في رصيدها الفني إلا مسلسلات كوميدية تعتمد الضحك على الذقون مثل «طاش ماطاش» و«سلفي»!
هذا ما يحدث بالضبط اليوم، عبر تحركات مفاجئة، وتخبطات متلاحقة، هدفها المعلن احتواء هؤلاء بعد سنوات من القطيعة والجفاء، والتنابز بالأفكار والألقاب، والتعامل معهم كعملاء.
ويبدو أن الرياض جادة بـ«فيلمها» الجديد، الذي نعتقد أن السيناريو الخاص به أُعد في أبو ظبي، لكن السؤال: كيف ستتم عمليات المونتاج، لربط مشاهد متضاربة، ومواقف متناقضة، لا يجمع بينها خيط، ولا يربطها شيء، تقوم حبكتها الرئيسية على زيارة السيد مقتدى الصدر للسعودية، واجتماعه بولي العهد هناك؟
الإجابة جاءت من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي علّق على زيارة السيد الصدر للسعودية قائلا إنها «إجراء طبيعي على اعتبار أن العراق بلد ديمقراطي»، لكنه نبه في الوقت ذاته إلى أن «بغداد تعتبر التصدي لأي اعتداء على إيران واجبا أخلاقيا وشرعيا عليها».
إذن مسألة «الاحتواء» لا معنى لها، وهكذا أضاع العبادي بجملة من «12» كلمة كل الحبكة لفيلم الأكشن السعودي، وأعاد الأمور إلى المربع الأول، فالمسألة معقدة وطويلة وشائكة ومتشابكة، ولا يمكن انتهاء حالة الشك، وبفيلم أكشن، طويل أو قصير.
لذلك لن ينجح الكاتب المصري الشهير يوسف معاطي، مؤلف أفلام عادل إمام، ولا خلف الحربي، كاتب أعمال المهرج ناصر القصبي، في إيجاد سيناريو يجمع كل هذه المتناقضات ويقنع الجمهور، لأن أحداثه متضادة وصادمة، فمن يُفترض أنه قريب وصديق أصبح في نظرهم عدوا، ومن يهددهم ليل نهار بقصف الرياض أصبح حبيبا.. فعلا هذا يحتاج لسيناريو غريب وعجيب ومريب!!
ويبدو أن السعودية التي تأخذ على الدوحة وجود علاقات ما بينها وبين طهران، نسيت أن محاصرتها لقطر تنبع أساسا من هذا الادعاء، الذي قرصنت له الإمارات وكالة الأنباء القطرية، وبثت عبرها الحديث المفبرك، الذي ورد فيه أن «قطر نجحت في بناء علاقات قوية مع أميركا وإيران في وقت واحد، نظراً لما تمثله إيران من ثقل إقليمي وإسلامي لا يمكن تجاهله، وليس من الحكمة التصعيد معها».
والأسبوع الماضي شهدنا العناق الحار بين وزير الخارجية السعودي ونظيره الإيراني، وكان يمكن أن يمر الأمر بسلام، لولا التوضيح الإيراني القاطع بأن الوزيرالجبير هو من بادر بالتوجه إلى مكان وقوف ظريف وسلم عليه، وبعد السلام اقترب أكثر واحتضنه.
هذا العناق كان تتويجا للقاءات شهدتها السعودية مع من تعتبرهم عملاء طهران في المنطقة، فما الذي تغير إذن؟.
يصعب تقديم إجابة منطقية، فسياسة السعودية اليوم هي سياسة اللامنطق، لذلك تعالوا نستذكر ما قاله محمد بن سلمان عن إيران في الثالث من مايو 2017 في مقابلة مع التليفزيون السعودي: «إيران تريد السيطرة على العالم الإسلامي.. كيف يتم التفاهم معهم؟، فمنطق إيران أن المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضروا البيئة الخصبة لظهوره عبر السيطرة على العالم الإسلامي».
وأوضح أن هناك «هدفا رئيسيا للنظام الإيراني في الوصول إلى قبلة المسلمين، ولن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سوف نعمل لكي تكون المعركة لديهم في إيران».
إذا كان هذا هو المنطق الذي يحكم علاقات السعودية بإيران، لماذا إذن بادر الوزير الجبير بالتوجه إلى مكان وقوف ظريف وسلم عليه، ثم بعد السلام اقترب أكثر واحتضنه؟.
يبدو أننا أمام فيلم فلسفي وليس أكشن، ولأن الإمارات وسفيرها العتيبة هم أكثر الناس خبرة
بـ«الخلافات الفلسفية»، وبمشاعر الحزن والسعادة والكراهية، لذلك لا نستبعد أن تكون من أعدت السيناريو، والذي يحتوي على فصلين رئيسيين، المشهد الأول التقارب مع السياسة الإيرانية، والمشهد الثاني التحول من الوهابية
إلى العلمانية..!
ويبدو أن كل شيء يتحرك من هناك، من أبوظبي «الأمّارة» بالسوء، بدليل أن موضوع لقطات المصافحة، التي لم ينشرها إعلام دول الحصار، تم التعاطي معها عبر صحيفتين واحدة سعودية (عكاظ) والأخرى إماراتية (البيان)، من منظور تم التركيز فيه على العلاقات القطرية- الإيرانية، وبعنوان موحد هو «تبادل «الود» يفشي أعوام «العسل» بين طهران والدوحة!»، مع تطابق مذهل حتى في الأقواس وعلامة التعجب، بدليل أن صاحب السيناريو في أبو ظبي هو من أوعز للصحيفتين بالريموت كونترول، أو بقروب الواتساب، كما فضحتهم الفايننشال تايمز بأنهم يتلقون الأوامر للنشر، وليس بوسعهم حتى المناقشة.. وهذه بالمناسبة صحيفة بريطانية تصدر من لندن، وليست مطبوعة مصرية تصدر من كرداسة!
لقاء الأحضان هذا يحيلنا للسؤال الأهم: هل غيرت إيران من فكرة أن المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضروا البيئة الخصبة لظهوره عبر السيطرة على العالم الإسلامي، كما قال ولي العهد السعودي؟، وهل تراجع السيد الصدر أو السيد قاسم الأعرجي وزير الداخلية العراقي، الذي تم استقباله بحفاوة وحرارة أيضا في السعودية، عن آرائه التي هاجم فيها السعودية مرارا وتوعدها بتهديداته؟، ليتحول من «عميل» إلى «زعيم» يلقى استقبالا لم يحظ به بعض رؤساء الدول في السعودية؟.
نعود للوزير الجبير، وهو القائل في فبراير الماضي فقط: «إيران هي أكبر دولة ترعى الإرهاب في العالم، هي مصرة على قلب النظام في الشرق الأوسط، وما لم تغير إيران سلوكها سيكون من الصعب جدا التعاون مع دولة مثل هذه».
هل تبدل سلوك إيران ليسعى إلى احتضان الوزير ظريف، وهل تغير أداء من تصفهم الرياض بـ«عملاء» طهران ليتم استقبالهم بهذه الحفاوة؟!
هناك من يرى أن اليمن وراء هذا التبدل، إذ تريد السعودية حلا يُخرجها من الأزمة هناك، ووجدت ضالتها في التقرب من العراق عله يكون بمثابة مخرج معقول، لذلك استقبلت الصدر والأعرجي، وتسعى وراء تطوير علاقاتها ببغداد على مضض، بعد الاحتقان الذي أدى إلى إبعاد السفير ثامر السبهان من هناك، كل ذلك يمكن «هضمه» ببعض المشروبات الغازية، لكن حتى الآن ما لا يمكن فهمه تهافت الوزير الجبير على نظيره الإيراني، إلا إذا كان كاتب السيناريو في أبوظبي قد أصر على هذا المشهد لتكتمل إثارة الفيلم في الشرق الأوسط الجديد!
في المقابل تصف صحيفة الرياض الرسمية والتي تمثل السياسة السعودية في خبر لها على تويتر حركة المقاومة الفلسطينية حماس بأنها «إرهابية».. ثم تحذفه بعد دقائق لكن بعد أن اصطاد التغريدة افيخاي درعي المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي للإعلام العربي.. ليعلق عليها قائلا: «وشهد شاهد من أهل صفة.. الرياض تنطق بالحق وتسمي الأشياء بأسمائها»!!
من أوصل عاصمة القرار العربي سابقا إلى هذا المستوى من الارتباك والتهور والاندفاع؟.. أين مكانة المملكة الرائدة القائدة والتي تحولت فجأة لمراهقة وأصبحت رهينة تصرفات طائشة وسياسات متقلبة ومتحولة؟!
آخر نقطة..
المجتمع السعودي هو الأكثر قدرة على «تكييف» الأمور حسب الموجة والشعب ماشي بـ«التسليك»..
فإذا أعلنت الحكومة عن لقاء مع أحزاب معارضة في العراق قال الإعلاميون إنها ظروف المرحلة، وفكرة جهنمية لـ «احتواء الشيعة العرب».. وقال السياسيون: «خطة مناسبة لإعادة التوازن في المنطقة»، وأضاف المشايخ: «كل مامن شأنه دعم الأمن والاستقرار فهو أمر محمود».. وقال الليبراليون: خطوة موفقة للقضاء على الجماعات المتشددة والإرهابيين والظلاميين والتكفيريين!
وإذا لمحت الحكومة عن قيادة المرأة تسابقوا للثناء على الخطوة والحاجة لها، وإذا عملت العكس برروا لها وذكروا أن المجتمع السعودي حالة خاصة!
وإذا أشارت إلى الاختلاط ظهر علينا «مفتي روتانا»: أعطووووني دليلا واحدا أعطوووني.. فهذا لم يذكر في القرآن ولا في الأحاديث!
وإذا منع عاد نفس المفتي ليشكر القيادة على حرصها على حماية المجتمع من الانفلات..
وإذا حاصروا قطر قالوا لصالحها وإذا رفع عنها قالوا لمصالحها.. المهم كل شيء زين والأمور تمام.. لكن الأحداث المهمة التي تعني الأمة مثل المناداة بالعلمانية، وتحييد الدين، وفرض وصاية على المشايخ، وتقليل هيبتهم وحضورهم ونفوذهم، عبر مشروع العتيبة.. لم نسمع حولها تعليقات لا من علماء، ولا من سياسيين، وهم الذين أشبعوا قطر أحاديث وتصريحات وبعضها من سفراء «ما حد درى عنهم»!
واليوم يصمتون عن هذا المشروع الذي يستهدف بلاد التوحيد كما صمتوا عن اللقاءات مع الزعماء الشيعة المناهضين للمملكة، وعن المصافحة والابتسامة الودية للوزير الجبير مع نظيره الإيراني، بعد أن هددوا بأن ينقلوا المعركة عندهم وفي داخلهم.. وتوعدوا من يعمل لقاءات أو علاقات معها حتى تعلم إيران عن الغضب السعودي.. لكن يبدو أن هذا الغضب لم يتجاوز التصريحات والشيلات، والتي يقول مطلع أحدها مع انطلاق عاصفة الحزم:
علموا طهران تحذر من زعلنا
قبل لا تصبح ضحية للسباعي
بانتظار شيلة جديدة تقول:
الظاهر إن طهران مادرت عن زعلنا..!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
لكن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عمل حركة «من الآخر»، كما يقولها شباب السناب، وأحرق المسلسل وباقي حلقاته، وخلّص العرض
قبل موعده، وصدم المتابعين والمراقبين، وحقق أعلى نسبة تناقضات، وليست مشاهدات، مستفيدا من مهارته في المراوغة، وتغيير المواقف، ونشر الإشاعات، وتأليف الاتهامات، ووظفها جميعا في إخراج مشهد كوميدي تراجيدي مختلط، عندما «درعم» باتجاه وزير خارجية إيران جواد ظريف، وصافحه بحرارة، وأرسل له الابتسامة، في جو تغلفه الحميمية والمشاعر المتبادلة، وهو قبل هذا الموعد بساعات كان «يزابد» في المنامة، ويقول الويل والثبور وعظائم الأمور لمن يبني علاقة مع إيران، فهذه دولة مارقة فاسدة وتنشر الإرهاب، وتزعزع الأمن وتتدخل في شؤوننا ويجب إيقافها عند حدها.
ولم نكن نفهم أنه يقصد إيقافها بالأحضان، ومصافحة فابتسامة فلقاء.. ونسي الجبير تهديده ووعيده الذي يبدو أنه لم يتجاوز محل حلويات شويطر في المنامة.. فجاءت أصداؤه حميمية لطيفة بمصافحة سلام، وسؤال عن الأحوال الشخصية، ولا أستبعد أن الجبير خاطب نظيره الإيراني باللغة الفارسية، ورحب به قائلا «خوش امديد»، ورد عليه ظريف: «هلا والله»..!!
لكن كثيرا من السعوديين يقولون في صدورهم لحظة المصافحة والابتسامة والصورة: «أفا ياذا العلم»!
كما نسي الجبير قبل ذلك أن هذا الرجل الذي صافحه واحتضنه وابتسم له هو نفسه الذي يتهم السعوديون بلاده بمحاولة اغتياله، عندما كان سفيرا للمملكة في واشنطن 2011، كما أنها التي أحرقت سفارتهم في طهران، ويرون أنها تصدر الإرهاب، وتزعزع الأمن والاستقرار، ومع ذلك مصافحتها حلال زلال، والتعاطف مع قطر حرام ومنكر!!
وكما هي الصورة عن طهران فإن لها «كوبي» في بغداد، فالسعودية ترى طوال عقود من الزمان أن الأحزاب الشيعية العراقية صورة نمطية لنظيرتها الإيرانية، وأنها امتداد للتوسعات والأحلام الفارسية في المنطقة العربية، فكانت تتوجس منها ولا تتعاون معها..
واليوم، ويا سبحان الله، أصبح قيادات الحشد الشعبي والتيار الصدري في مقدمة المرحب بهم في السعودية، يحظون بضيافة ملكية ولقاءات رسمية وودية، وهدايا بأرقام فلكية، كما حصلوا مع نظرائهم الإيرانيين على عشرات الآلاف من تأشيرات الحج والعمرة، فيما وضعوا العراقيل والمعوقات أمام أهل قطر، الذين لا يزيدون على 2000 حاج سنويا، وحاصروها من أجل علاقتها المزعومة مع إيران، التي يتودد لها الجبير، ويصور مع وزير خارجيتها، فيما يستقبل ولي العهد السعودي حلفاءها ووكلاءها في العراق!
لم يُعرف عن السعودية اهتمامها بالإنتاج السينمائي، ولا توجد فيها دور عرض، باستثناء تلك الخاصة بالموظفين الأجانب في شركة ارامكو في مجمعاتهم السكنية، كما تقوم بعض مقرات الأندية الأدبية والثقافية بعرض بعض الأفلام، لذلك سيبدو غريبا للغاية أن تنتج الرياض فيلما يفوز بجائزة الأوسكار، أو السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي العالمي، أو منافسة هوليوود، عبر إنتاج فيلم أكشن عنوانه «احتواء الشيعة العرب»، وهي ليس في رصيدها الفني إلا مسلسلات كوميدية تعتمد الضحك على الذقون مثل «طاش ماطاش» و«سلفي»!
هذا ما يحدث بالضبط اليوم، عبر تحركات مفاجئة، وتخبطات متلاحقة، هدفها المعلن احتواء هؤلاء بعد سنوات من القطيعة والجفاء، والتنابز بالأفكار والألقاب، والتعامل معهم كعملاء.
ويبدو أن الرياض جادة بـ«فيلمها» الجديد، الذي نعتقد أن السيناريو الخاص به أُعد في أبو ظبي، لكن السؤال: كيف ستتم عمليات المونتاج، لربط مشاهد متضاربة، ومواقف متناقضة، لا يجمع بينها خيط، ولا يربطها شيء، تقوم حبكتها الرئيسية على زيارة السيد مقتدى الصدر للسعودية، واجتماعه بولي العهد هناك؟
الإجابة جاءت من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي علّق على زيارة السيد الصدر للسعودية قائلا إنها «إجراء طبيعي على اعتبار أن العراق بلد ديمقراطي»، لكنه نبه في الوقت ذاته إلى أن «بغداد تعتبر التصدي لأي اعتداء على إيران واجبا أخلاقيا وشرعيا عليها».
إذن مسألة «الاحتواء» لا معنى لها، وهكذا أضاع العبادي بجملة من «12» كلمة كل الحبكة لفيلم الأكشن السعودي، وأعاد الأمور إلى المربع الأول، فالمسألة معقدة وطويلة وشائكة ومتشابكة، ولا يمكن انتهاء حالة الشك، وبفيلم أكشن، طويل أو قصير.
لذلك لن ينجح الكاتب المصري الشهير يوسف معاطي، مؤلف أفلام عادل إمام، ولا خلف الحربي، كاتب أعمال المهرج ناصر القصبي، في إيجاد سيناريو يجمع كل هذه المتناقضات ويقنع الجمهور، لأن أحداثه متضادة وصادمة، فمن يُفترض أنه قريب وصديق أصبح في نظرهم عدوا، ومن يهددهم ليل نهار بقصف الرياض أصبح حبيبا.. فعلا هذا يحتاج لسيناريو غريب وعجيب ومريب!!
ويبدو أن السعودية التي تأخذ على الدوحة وجود علاقات ما بينها وبين طهران، نسيت أن محاصرتها لقطر تنبع أساسا من هذا الادعاء، الذي قرصنت له الإمارات وكالة الأنباء القطرية، وبثت عبرها الحديث المفبرك، الذي ورد فيه أن «قطر نجحت في بناء علاقات قوية مع أميركا وإيران في وقت واحد، نظراً لما تمثله إيران من ثقل إقليمي وإسلامي لا يمكن تجاهله، وليس من الحكمة التصعيد معها».
والأسبوع الماضي شهدنا العناق الحار بين وزير الخارجية السعودي ونظيره الإيراني، وكان يمكن أن يمر الأمر بسلام، لولا التوضيح الإيراني القاطع بأن الوزيرالجبير هو من بادر بالتوجه إلى مكان وقوف ظريف وسلم عليه، وبعد السلام اقترب أكثر واحتضنه.
هذا العناق كان تتويجا للقاءات شهدتها السعودية مع من تعتبرهم عملاء طهران في المنطقة، فما الذي تغير إذن؟.
يصعب تقديم إجابة منطقية، فسياسة السعودية اليوم هي سياسة اللامنطق، لذلك تعالوا نستذكر ما قاله محمد بن سلمان عن إيران في الثالث من مايو 2017 في مقابلة مع التليفزيون السعودي: «إيران تريد السيطرة على العالم الإسلامي.. كيف يتم التفاهم معهم؟، فمنطق إيران أن المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضروا البيئة الخصبة لظهوره عبر السيطرة على العالم الإسلامي».
وأوضح أن هناك «هدفا رئيسيا للنظام الإيراني في الوصول إلى قبلة المسلمين، ولن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سوف نعمل لكي تكون المعركة لديهم في إيران».
إذا كان هذا هو المنطق الذي يحكم علاقات السعودية بإيران، لماذا إذن بادر الوزير الجبير بالتوجه إلى مكان وقوف ظريف وسلم عليه، ثم بعد السلام اقترب أكثر واحتضنه؟.
يبدو أننا أمام فيلم فلسفي وليس أكشن، ولأن الإمارات وسفيرها العتيبة هم أكثر الناس خبرة
بـ«الخلافات الفلسفية»، وبمشاعر الحزن والسعادة والكراهية، لذلك لا نستبعد أن تكون من أعدت السيناريو، والذي يحتوي على فصلين رئيسيين، المشهد الأول التقارب مع السياسة الإيرانية، والمشهد الثاني التحول من الوهابية
إلى العلمانية..!
ويبدو أن كل شيء يتحرك من هناك، من أبوظبي «الأمّارة» بالسوء، بدليل أن موضوع لقطات المصافحة، التي لم ينشرها إعلام دول الحصار، تم التعاطي معها عبر صحيفتين واحدة سعودية (عكاظ) والأخرى إماراتية (البيان)، من منظور تم التركيز فيه على العلاقات القطرية- الإيرانية، وبعنوان موحد هو «تبادل «الود» يفشي أعوام «العسل» بين طهران والدوحة!»، مع تطابق مذهل حتى في الأقواس وعلامة التعجب، بدليل أن صاحب السيناريو في أبو ظبي هو من أوعز للصحيفتين بالريموت كونترول، أو بقروب الواتساب، كما فضحتهم الفايننشال تايمز بأنهم يتلقون الأوامر للنشر، وليس بوسعهم حتى المناقشة.. وهذه بالمناسبة صحيفة بريطانية تصدر من لندن، وليست مطبوعة مصرية تصدر من كرداسة!
لقاء الأحضان هذا يحيلنا للسؤال الأهم: هل غيرت إيران من فكرة أن المهدي المنتظر سوف يأتي ويجب أن يحضروا البيئة الخصبة لظهوره عبر السيطرة على العالم الإسلامي، كما قال ولي العهد السعودي؟، وهل تراجع السيد الصدر أو السيد قاسم الأعرجي وزير الداخلية العراقي، الذي تم استقباله بحفاوة وحرارة أيضا في السعودية، عن آرائه التي هاجم فيها السعودية مرارا وتوعدها بتهديداته؟، ليتحول من «عميل» إلى «زعيم» يلقى استقبالا لم يحظ به بعض رؤساء الدول في السعودية؟.
نعود للوزير الجبير، وهو القائل في فبراير الماضي فقط: «إيران هي أكبر دولة ترعى الإرهاب في العالم، هي مصرة على قلب النظام في الشرق الأوسط، وما لم تغير إيران سلوكها سيكون من الصعب جدا التعاون مع دولة مثل هذه».
هل تبدل سلوك إيران ليسعى إلى احتضان الوزير ظريف، وهل تغير أداء من تصفهم الرياض بـ«عملاء» طهران ليتم استقبالهم بهذه الحفاوة؟!
هناك من يرى أن اليمن وراء هذا التبدل، إذ تريد السعودية حلا يُخرجها من الأزمة هناك، ووجدت ضالتها في التقرب من العراق عله يكون بمثابة مخرج معقول، لذلك استقبلت الصدر والأعرجي، وتسعى وراء تطوير علاقاتها ببغداد على مضض، بعد الاحتقان الذي أدى إلى إبعاد السفير ثامر السبهان من هناك، كل ذلك يمكن «هضمه» ببعض المشروبات الغازية، لكن حتى الآن ما لا يمكن فهمه تهافت الوزير الجبير على نظيره الإيراني، إلا إذا كان كاتب السيناريو في أبوظبي قد أصر على هذا المشهد لتكتمل إثارة الفيلم في الشرق الأوسط الجديد!
في المقابل تصف صحيفة الرياض الرسمية والتي تمثل السياسة السعودية في خبر لها على تويتر حركة المقاومة الفلسطينية حماس بأنها «إرهابية».. ثم تحذفه بعد دقائق لكن بعد أن اصطاد التغريدة افيخاي درعي المتحدث باسم جيش الدفاع الإسرائيلي للإعلام العربي.. ليعلق عليها قائلا: «وشهد شاهد من أهل صفة.. الرياض تنطق بالحق وتسمي الأشياء بأسمائها»!!
من أوصل عاصمة القرار العربي سابقا إلى هذا المستوى من الارتباك والتهور والاندفاع؟.. أين مكانة المملكة الرائدة القائدة والتي تحولت فجأة لمراهقة وأصبحت رهينة تصرفات طائشة وسياسات متقلبة ومتحولة؟!
آخر نقطة..
المجتمع السعودي هو الأكثر قدرة على «تكييف» الأمور حسب الموجة والشعب ماشي بـ«التسليك»..
فإذا أعلنت الحكومة عن لقاء مع أحزاب معارضة في العراق قال الإعلاميون إنها ظروف المرحلة، وفكرة جهنمية لـ «احتواء الشيعة العرب».. وقال السياسيون: «خطة مناسبة لإعادة التوازن في المنطقة»، وأضاف المشايخ: «كل مامن شأنه دعم الأمن والاستقرار فهو أمر محمود».. وقال الليبراليون: خطوة موفقة للقضاء على الجماعات المتشددة والإرهابيين والظلاميين والتكفيريين!
وإذا لمحت الحكومة عن قيادة المرأة تسابقوا للثناء على الخطوة والحاجة لها، وإذا عملت العكس برروا لها وذكروا أن المجتمع السعودي حالة خاصة!
وإذا أشارت إلى الاختلاط ظهر علينا «مفتي روتانا»: أعطووووني دليلا واحدا أعطوووني.. فهذا لم يذكر في القرآن ولا في الأحاديث!
وإذا منع عاد نفس المفتي ليشكر القيادة على حرصها على حماية المجتمع من الانفلات..
وإذا حاصروا قطر قالوا لصالحها وإذا رفع عنها قالوا لمصالحها.. المهم كل شيء زين والأمور تمام.. لكن الأحداث المهمة التي تعني الأمة مثل المناداة بالعلمانية، وتحييد الدين، وفرض وصاية على المشايخ، وتقليل هيبتهم وحضورهم ونفوذهم، عبر مشروع العتيبة.. لم نسمع حولها تعليقات لا من علماء، ولا من سياسيين، وهم الذين أشبعوا قطر أحاديث وتصريحات وبعضها من سفراء «ما حد درى عنهم»!
واليوم يصمتون عن هذا المشروع الذي يستهدف بلاد التوحيد كما صمتوا عن اللقاءات مع الزعماء الشيعة المناهضين للمملكة، وعن المصافحة والابتسامة الودية للوزير الجبير مع نظيره الإيراني، بعد أن هددوا بأن ينقلوا المعركة عندهم وفي داخلهم.. وتوعدوا من يعمل لقاءات أو علاقات معها حتى تعلم إيران عن الغضب السعودي.. لكن يبدو أن هذا الغضب لم يتجاوز التصريحات والشيلات، والتي يقول مطلع أحدها مع انطلاق عاصفة الحزم:
علموا طهران تحذر من زعلنا
قبل لا تصبح ضحية للسباعي
بانتظار شيلة جديدة تقول:
الظاهر إن طهران مادرت عن زعلنا..!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول