كان يبكي بحرقة، يصرخ في قرية حسان جوار كنيسة مهد المسيح في بيت لحم «يما حرقوا الزيتونات – راحت الجدة... حرقوها يمااااا».. وقطعان المستوطنين غير مبالين ينتقلون بحقدهم ونارهم من شجرة إلى شجرة، ولم يقدروا قيمة هذه الشجرة التي انحنى لها الفراعنة والروم والبيزنطيون والفرس وخلدها القرآن الكريم بوصفها الشجرة المباركة.

وشجرة الزّيتون من أكثر الأشجار قدرةً على التكيّف مع البيئة الجغرافيّة التي تنمو وتترعرع فيها، ويكفي هذه الشّجرةَ عظمةً أنَّ الكتبَ السّماويّةَ قد خصّتها بالذّكر، وعلى رأسها القرآن الكريم الّذي ذكرَها في خمسة مواضعَ.

ولأنّ الرّمزَ مرآة الشّعوب، فقد استعار الشّعراء المحدثون من شجرة الزّيتون صفاتها للتّعبير عن المقاومة والصّمود في وجه العدوّ والارتباط بالأرض، ومن أكثر الشّعراء تأثّراً بهذا الجانب محمود درويش الذي لم يترك من الأشجار والنّباتات الّتي رآها أو اشتهرت بها أرض فلسطين إلا وذكرها، وقد حازت شجرة الزّيتون في شعره حضوراً لم يبلغه غيرها من الأشجار، «وقد مثّلت له هذه الشّجرة وطناً بكلّ أبعاده»، فنجده في كثيرٍ من قصائده يبلغ أعلى مراتب الدّلالة الرّمزية في توظيفها، ولأهمّية الزيتون اختاره درويش ليكون عنواناً لديوانه الشّعريّ الأوّل «أوراق الزّيتون».

وفد استغل الصهاينة وداعة شجرة الزيتون وحقدوا على عطائها للفلسطيني ورفضها التكيف معه في حقله المغتصب أقدم على قلعها من جذورها واحراقها يقول درويش:

شجرة الزيتون لا تبكي ولا تضحك. هي

سيدة السفوح المحتشمة. بظلها تغطي

ساقها، ولا تخلع أوراقها أمام عاصفة.

تقف كأنها جالسة، وتجلس كأنها واقفة.

تحيا أختاً لأبدية أليفة وجارة لزمن

يعينها على تخزين الزيت النوراني وعلى

نسيان أسماء الغزاة ما خلا الرومان

الذين عاصروها واستعاروا بعض أغصانها

لضفر الأكاليل. لم يعاملوها كأسيرة حرب،

بل كجدة محترمة ينكسر السيف أمام

وقارها النبيل. في فضة حضرتها المتقشفة

خفر اللون من الإفصاح، والنظر إلى ما

وراء الوصف، فلا هي خضراء ولا فضية.

هي لون السلام إذا احتاج السلام إلى فصيلة

لون. لا يقول لها أحد: كم أنت جميلة !

لكنه يقول: كم أنت نبيلة وجليلة. وهي،

هي التي تدرّب الجنود على نزع البنادق،

وتمرنهم على الحنين والتواضع: «عودوا إلى

بيوتكم، وأضيئوا بزيتي القناديل». لكن

هؤلاء الجنود، هؤلاء الجنود الجدد،

يحاصرونها بالجرافات ويجتثونها من سلالة

الأرض.. ينتصرون على جدتنا التي انقلبت

وصار فرعها في الأرض وجذورها في السماء.

لم تبك ولم تصرخ. إلا أن أحد

أحفادها ممن شاهدوا عملية الإعدام، رمى

جندياً بحجر، واستشهد معها، وعندما مضى

الجنود منتصرين، دفناه هناك: في الحفرة

العميقة - مهد الجدة. ولسبب ما، كنا

متأكدين من أنه سيصبح، بعد قليل، شجرة

زيتون.. شجرة زيتون شائكة.. وخضراء!