+ A
A -

قالَ الزَّجاج: كُنا عند المُبرِّد شيخ العرب في النحو، فجاءه رجلٌ فقال: أسألُكَ عن مسألةٍ في النحو؟

فقالَ له المُبرِّد: لا!

فقالَ له: أخطأتَ!

فقالَ المُبرِّد: كيف أكونُ مخطئاً ولم أُجِبْكَ عن المسألةِ بعد؟

فأقبلَ عليه تلاميذُ المُبرِّدِ يُعنفونه، فقالَ لهم: اتركوه، أنا أُخبرُكُم بقصته، هذا رجلٌ يُحبُ الخلاف، وقد خرجَ من بيته وقصدني على أن يُخالفني في كلِّ شيءٍ أقوله له، ويُخطئني فيه، فسبقَ لسانه بما في قلبه!

يقولُ الإمامُ الشافعيُّ: أصحابُ العربية جنُّ الإنس، يُبصرون ما لا يُبصر غيرهم!

والحقُ يُقالُ أن المُبرِّدَ كانَ من جِنِّ الإنس!

كانَ المُبَرِّد لشدةِ حفظه اللغة، ومعرفته بما يجهل غيره يُتهم بالكذب، فأرادَ أبو عبد الله المفجع ورفاق له، وكانوا يكرهون المُبرِّد، أن يضعوا لفظاً من عندهم، ويسألوه عنه، ليُجيبهم كعادته، ثم يُقيموا عليه الحُجة أنَّ جوابه لا أصلَ له في اللغة، وأنه من وضعهم!

فقالوا له: أنبئنا ما «القعبض» في اللغة؟

فقالَ لهم: هو القطن! يصدقُ ذلك قول أعرابي: كأنَّ سنامها حُشُِيَ القعبضا!

فقالَ بعضُهم لبعض: لقد أتاكم بالجوابِ والشاهد! فإن كانَ صحيحاً فهو عجيب، وإن كانَ قد اختلقه فهو أعجب!

وقرأَ الخليفةُ المُتَوَكِّل يوماً في حضرةِ وزيره الفتح بن خاقان: «وما يُشعركم أنها إذا جاءتْ لا يؤمنون» بفتحِ همزة أن.

فقالَ له الفتح: إنَّها يا سيدي بالكسر!

وصمَّمَ كلٌّ منهما على رأيه، فتراهنا على عشرةِ آلافِ دينارٍ يدفعُها مَن لا يكون الحق معه!

فتحاكما إلى يزيد بن محمد الهلبي وكانَ صديقاً للمُبرِّد، وخشيَ أن يُغضِبَ أحدهما، فأشارَ عليهما أن يسألا المُبرِّد فيها!

فاستدعاه الفتحُ أولاً، وسأله عنها، فقالَ له: هي بالكسر!

فلمَّا دخلوا جميعاً على المُتَوَكِّل، وسُئِلَ َعنها، قال: يا أمير المؤمنين أكثر الناس يقرأونها بالفتح!

فضحكَ المُتَوَكِّل، وقالَ لوزيره: اَحْضِرْ المالَ يا فتح!

فلمَّا خرجوا من عندِ الخليفة، عاتبه الفتحُ لتغييرِ قوله!

فقالَ له المُبرِّد: إنما قلتُ أكثر الناس يقرأونها بالفتح!

وأكثرهم على الخطأ، وإنَّما تخلصتُ من اللائمةِ عند أميرِ المؤمنين!

فأعجبَ ذلكَ الفتح، وصارَ صديقاً للمُبرِّد!

وبالعودة إلى الموضوع، فإنَّ بعض الناسِ مولعٌ بالخِلاف، يجدُ في عناد الآخرين لذةً، وفي السَّيرِ عكس التّيارِ نشوةً! إذا قلتَ له: إنّ الحليب أبيض.

قال لكَ: بل هو أسود!

وإذا قلتَ له: إنَّ البحر مالحٌ.

قال لكَ: بل هو عَذْبٌ!

هؤلاء لا يُجدي معهم إلا أن تشتريَ راحةَ بالكَ، ولا تُجادلهم أصلاً!

فإن أقسموا أن البحر عذبٌ!

فقُلْ لهم: شربتُ منه!

وإن قالوا لكَ: إنَّ الفحمَ أبيض!

فقل لهم: أكثر بياضاً من الثلج!

copy short url   نسخ
20/06/2023
790