+ A
A -
على مر التاريخ لعب المثقفون دوراً تنويرياً ساهم في تدفق المعلومة الصحيحة المقرونة بالرأي السديد المتجرد من المصالح الفئوية والأطر الضيقة، فباتوا مصابيح حقيقية أنارت الدروب في مراحل متعثرة وساهمت في صياغة مجموعة القيم والمبادئ التي يجب أن تتحلى بها المجتمعات، وليس المثقفون وحدهم، فكانوا من العلامات الفارقة والمراجع الثابتة التي يُستأنس برأيها ويُنهل من فكرها.
المثقّف يحظى بمكانة راقية في المجتمع؛ فهو سخّر الكثير من أيامه ولياليه للقراءة وقضى جل عمره وذروة شبابه محاطاً بجيش من الكتب والروايات وقصص التاريخ للتزود بالمعلومات والحقائق لكي يستفيد من عصارتها في المواقف الحرجة التي تواجهه وكذلك مجتمعه بما يقتضيه المنطق والضمير دون تضليل أو تحوير أو تدليس وتزوير!
وقد لعب المثقفون في عصور مضت دوراً كبيراً في واقع الناس ودنياهم، وكان لهم حضور ريادي في إصلاح الواقع، لكن ذلك لم يكن دون ثمن فقد عانوا كثيراً من شرور الجاهلين والحكام المستبدين.
فيما يقبل بعضهم أن يكون بؤراً معتمة عبر تبني مواقف تتناقض جذرياً مع الحق والإنصاف، مفضلاً العيش الرغيد تحت جناح السلطة!
المشهد الثقافي في الأزمة الخليجية لم يكن أحسن حالاً من السياسي أو الإعلامي، بل ربما كان أسوأ بعد أن خذل معظم رجاله مجموعة المبادئ الإنسانية والقيم التنويرية التي تعلموها وراهنوا عليها وملؤوا الفضاء ضجيجاً بالمطالبة بها أو الدفاع عنها، وانحازوا للأفكار القمعية والسلطوية مجاراة لأصحاب القرار أو للهروب من طائلة السجن والإخفاء القسري والإرهاب الجديد..!
أين هو المثقف الخليجي في مواجهة الأزمة التي تعيشها منطقتنا حالياً، وما دوره فيها، وما رأيه في الحصار الذي تواجهه قطر؟ وما موقفه من المطالبة بمصادرة حرية التعبير والتعاطف وإغلاق وسائل التواصل والإعلام وانتهاكات حقوق الإنسان؟!
تكمن أهمية هذه الأسئلة في نظرة المجتمعات إلى المثقفين باعتبارهم عقولاً نيّرة، على ضوء ثقافتهم التي من المفترض أنها تنشد طريق التحرر والعدالة والتنمية والتطور.
للإنصاف فإنه لا يمكن وضع الجميع في سلة واحدة، هكذا كان الحال على الدوام، في كل أنحاء العالم، وفي مواجهة الكثير من القضايا الشائكة والصعبة، وفي الخليج لم يختلف الوضع كثيراً، ومع ذلك يجب التمييز بين مجتمعات ديمقراطية مهيأة لاستيعاب مختلف الآراء، وبين ديكتاتوريات غير قادرة على سماع الصوت الآخر، لذلك جاءت قرارات الدول الخليجية الثلاث ومصر، التي تحاصر قطر، بمعاقبة كل من يبدي تعاطفاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، لتصب في سياق مصادرة الآراء، بصورة مبكرة ومبتكرة، وإفساح المجال فقط أمام كل من يتبنى سياسة الحصار ويكيل السباب والشتائم.. دون وازع أو لومة لائم!
تنمو الثقافة وتزدهر في المجتمعات التي تنتصر لحرية الرأي والتعبير، لذلك كانت أكثر ازدهاراً ورقياً في قطر عنها في دول الحصار، فانبرت للدفاع عن قضيتها الوطنية وعن مكتسباتها الحضارية ليمارس الجميع حرية التعبير عن آرائه، دون رقيب يحاسبه، أو سجان ينتظره، ولم ينجرف المثقف القطري إلى بث السموم والدعوة للانقسام بين أبناء هذه المنطقة، وفي كل عمل يقدمه كان يراعي هذا الالتزام الأخلاقي والمصيري.
لكن في المقابل شهدت أوساط المثقفين والمفكرين في دول الحصار سقوطاً مروعاً لأسماء كنا ننظر إليها بشيء من الاهتمام قبل أن تنسلخ من أبسط قواعد الحوار وأدنى درجات الاحترام، فانجرفت خلف أخبار ملفقة دون أن تتحرى المصداقية وبنت عليها آراء مزرية دون أن تسمع الطرف الآخر فسقطت معها الموضوعية!
وإذا استثنينا المواقف السياسية التي من الوارد والطبيعي أن تكون محل خلاف فإن المطب الأكبر والذنب الأخطر هو تغافلها وتجاهلها قضايا من المفترض أنها ليست محل جدل، كما هو الحال مع انتهاكات حقوق الإنسان، التي حظيت بتعاطف ومتابعة وحرص من دول الغرب ومنظمات دولية ولم تؤثر في ضمير مثقف خليجي يدعي حرصه على منطقته وعلى تطورها وتنميتها وصيانة حقوقها.
فبغض النظر عن النمط الذي اختاره المثقف لنفسه في دول الحصار، إلا أن المسائل الأخلاقية كان يجب أن تبقى حاضرة بقوة في خضم الخلاف السياسي، لكن الشيء المذهل هو أن غالبيتهم اختارت الالتحاق بصناع القرار، وتبني مواقفهم، وترديد طروحاتهم، فظهروا بأداء سطحي طافح وتفكير ضحل فاضح لا يليق بفلسفتهم، ليعبروا عن مراهقة في خريف العمر لا تخلو من التملق والتسلق بحثاً عن مكاسب شخصية ومكافأة نهاية الخدمة!
ولو أردنا حصر المثقفين والفنانين والأدباء ورصد ما قدموه في هذه الأزمة فإننا سنحتاج إلى مجلدات، نصفها يصلح أن تهدى لموسوعة غينيس للأرقام القياسية «فصل التناقضات والإشاعات»..!
ولكن سنكتفي بعرض أربعة نماذج منهم وهم:
- د. عبدالله الغذامي مثقّف.
- عبدالرحمن الراشد مفكّر.
- د. عبدالخالق عبدالله أكاديمي.
- أحمد الجارالله صحفي.
هؤلاء الأربعة يفترض أنهم مثقفون وعندهم تجارب عميقة كل في مجاله، وحانت الفرصة ليقولوا للناس عن «الصح والخطأ».. والحق والباطل، بما تمليه عليهم ضمائرهم، لكن للأسف تحولوا إلى «مطبلين» وأبواق للأنظمة بطرح ضعيف في الرأي والمعلومة وبعضهم يؤلف قصصاً وأكاذيب، والآخر يردد ما يسمع دون تحرٍ أو تحقق، وكلهم ظهروا متلونين في مواقفهم ومستفزين بآرائهم لأنها ابتعدت عن عقولهم واقتربت أكثر من جيوبهم..!
الدكتور الغذامي «71 سنة»، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة إكستر البريطانية 1978 في تخصص النقد والمواد النظرية.. لذلك قضى حياته منظّراً وفيلسوفاً يتحدث عن قيم ومبادئ وعندما احتاجه الموقف، نسف مسيرة النضال والكفاح ليريح قلبه ويرتاح، فهو ليس في مرحلة الصدام.. هو اختار الانبطاح والاستسلام..!
الغذامي الذي يقول إنه لم يفتح العلبة التي فيها شهادته الدكتوراه منذ وصلته من الجامعة قبل 40 سنة وحتى اليوم مما جعله مثاراً للسخرية والتندر في مواقع التواصل الاجتماعي، مستنداً بذلك إلى أنه يريد إيصال رسالة معينة من خلال هذا الموقف..
وفعلاً وصلت الرسالة، وهي أن هذا الرجل رغم احترامي البالغ له في السابق يقوم بتصرفات غريبة وتصريحات مريبة وتحديداً في الآونة الأخيرة بشكل لا يتماهى مع قيمته ولا يليق بعلمه أو عمره!
الدكتور السبعيني «شطح» في حواراته الأخيرة، ومنها عندما تفلسف بالحديث عن انتقال الحكم في دولة قطر في منتصف التسعينيات؛ ليبرر تدخل السعودية وتورطها في العملية الانقلابية الفاشلة!
ورغم أن هذا شأن داخلي وتم بشكل سلمي حظي بتأييد ومبايعة، فإن الغريب هو كيف يقع مثقف مخضرم في هذا الخطأ الساذج والذي لا تحتاج إجابته الصحيحة إلى مثقف مغمور.. فما بالكم بدكتور..؟!
ونرد عليه بسؤال- وهو بالمناسبة معفي من الإجابة للظروف الضاغطة على المفكرين، والعقوبات «الداعسة» على المتعاطفين- والسؤال هو:
كيف ستتقبلون أي رد فعل سلبي خارجي على التغيير الأخير الذي حدث في مؤسسة الحكم في المملكة العربية السعودية؟!
هل سترونه حقاً للتعبير ونصحاً وتبريراً أم تطفلاً على شؤونكم الداخلية..؟!
أما النقطة الثانية التي تطرق لها الدكتور دون تحقق وربما بقصد الإساءة لقطر وهو بذلك مشارك ومساند وداعم في نقل الباطل.. مساهمته في نشر فيديو لـ «بزر» يبحث عن شهرة يتحدث بشكل مسيء عن مشاركة القوات القطرية في حرب اليمن ضمن قوات التحالف.. بأسلوب طفولي وكأنه يتحدث عن مسلسل كارتون في «سبيس تون»!
الغذامي بهذا التصرف كأنه مراهق في بداية العشرين، ولو أنه كلف نفسه قراءة سير الأحداث، بما أنه قارئ نهم لوجد الحقائق عند رجال الجبهة المطلعين على التفاصيل.. والتي بناء عليها كرموا القوات القطرية في أبريل 2017 ونوفمبر 2016 فيما ادعاءاتكم تسبق هذين التاريخين بشهور طويلة.. ولو كان هناك مجرد شبهة لعلموا عنها قادة التحالف في الميدان.. لأنهم صدقوا وأقسموا فقالوا الحق وكرموا من يستحق..
أما الأكاذيب الملفقة فهي خارجة من غرف السياسة والإعلام لتشويه صورة قطر وشيطنتها في جميع وسائل التواصل كضريبة لمواقفها من القضايا العربية والإسلامية.
ومن الغذامي إلى المناضل الليبرالي عبدالرحمن الراشد، الذي وصل لمرحلة من الشوفينية إلى حد الانتقاص من الآخرين والمنّ عليهم والتعصب الأعمى لرأيه؛ مما يدفعه لحشر أنفه في قضايا الدول الأخرى ومواقفها.. يشكك تارة ويهدد تارة أخرى، وهو يعلم أن كلامه ووعيده لا يتجاوز كنبة «مكتبه» ولا يؤثر في ريما «مكتبي»..!
تعاير الكويت يالراشد بتحريرها وتمنّ عليها نتيجة حيادها ونزاهتها في الأزمة الخليجية التي افتعلتموها عندما ربطت الشياطين..
يا عبدالرحمن «غير الراشد» الوقوف مع الكويت أو غيرها من دول مجلس التعاون الخليجي واجب لا فضل فيه أو جميل والخطر الذي يهدد عضواً هو مهدد حتمي للجميع..
والتحرير ساهمت فيه 32 دولة وليست دول الحصار وحدها حتى تتغنى بهذا المجد وتذكّر به.. وهذا حديث لا يتلفظ به سوى ضعاف العزوم ولا يليق إلا بـ «الرخوم»..!
النموذج الثالث هو الدكتور الأكاديمي الإماراتي عبدالخالق عبدالله الذي يبدو أنه يحاول الاتزان والظهور كواعظ ومصلح اجتماعي ومحلل سياسي، لكنه يقع في شر أعماله وتناقضاته، وكلما حاول التقول على قطر يكون قد نزع رداء من جسد إمارته وأفعالها الشريرة وأعمالها الشيطانية حتى باتت «عارية» أمام الرأي العام العالمي!
يقول في إحدى تغريداته الخطيرة: «قطر تتخندق خلف فرقاطة تركية»!
يقول هذا الكلام على أساس أن الجيش الإماراتي الوطني يضم من أفراده إلى ضبّاطه من القبائل والحمايل ومن أهل الدار.. وليس جيشاً مستأجراً لقواعد فرنسية ومصرية ويضم عصابات وميليشيات ومرتزقة من «البلاك ووتر» وعناصر أجنبية لحراسة القصور الرئاسية!
إذا كان بيتك من زجاج فغطّ وجهك يا دكتور!
وفي تغريدة أخرى يدعو للنصح بعدم التعرض للرموز ويطالب بالتهدئة.. بينما كل قيمه الإنسانية وضميره الأخلاقي كان في إجازة مدفوعة الراتب طوال الشهرين الماضيين وجارته قطر تتعرض للسب والقذف والطعن والتزوير والتزييف والتحريف والقرصنة والفبركة والحصار وانتهاكات لحقوق الإنسان.. لكن الدكتور ما يقدر يخالف تعليمات «طويل العمرررر»..!
أما النموذج الأخير فهو لا يستحق عناء الرد عليه، فهو بتغريداته يكشف ضحالة تفكيره ويهاجم نفسه من خلال ما يورده من معلومات مغلوطة، رغم أنها سهلة ومتاحة ويعرفها حتى طلاب الصف السادس الابتدائي!
أحمد الجارالله «75 سنة»، رئيس تحرير صحيفة كويتية، بدأت أعراض زهايمر من نوع فاخر تداهمه رغم محاولات تشبّبه الدائمة، فصبغ الشنب لا يكفي لتغطية الجهل المعشش في مخيلته وتغريدته عن الإمارات خير دليل.. إذ قال لا فض فوه ولا عاش حاسدوه:
«الملك عبدالعزيز قال ما يهزم بيرق حرب وفيه أبناء الإمارات. وقال عبدالناصر لن تستطيع أي قوة أن تضرب قبائل الإمارات لأنهم من أعظم القبائل»!
انتهت تغريدته الجهبذية ولم تنته تعليقات النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي والتي نورد منها النص التالي: الملك عبدالعزيز توفي 1953 وعبدالناصر 1970 فيما الإمارات تأسست 1971..!!
وبس.. هذا هو الجارالله الذي لا يعرف من الصحافة وقواعدها وثقافتها إلا لبس «البشت» و«اللفلفة» على الدواوين وشيوخ الخليج!
وزير الإسكان السعودي السابق ماجد الحقيل صاحب التصريح الشهير: «لا نعاني أزمة إسكان وأراضٍ وإنما نعاني أزمة فكر»..
نحتاج أن نستعيد تصريح هذا الوزير، الذي فقد منصبه بعد سنة وبضعة أشهر من تكليفه، لنعيد إسقاطه على الوضع الراهن بعد التعديل:
المشاكل الخليجية تعاني «أزمة فكر»!
والغريب في الموضوع أن المذكورين وغيرهم من المثقفين تجاوزوا الستين والسبعين من العمر والمفترض أنهم في مرحلة النضوج الكبير لكن ما نشاهده حالياً هي المراهقة بعينها..
عندما شاهدت مسرحية الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا في منتصف التسعينيات «مراهق في الخمسين» كان طابعها عاطفياً ورومانسياً.. اليوم وبعد 22 سنة اكتشفنا المراهق الثقافي والسياسي.. واقتنعنا أنهم الأخطر على مجتمعاتنا؛ فمن ينقل خبراً من غير دليل ويصطف في ذيل الطوابير ويثير الفتنة والاستفزاز بين الجماهير ويتنكر للقيم والمبادئ والقوانين.. فهو حتماً مراهق في الفكر و«مسجّل خطر»، سواء كان شاباً في الثلاثين أو حتى عجوزاً بـ «عكازين»!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
المثقّف يحظى بمكانة راقية في المجتمع؛ فهو سخّر الكثير من أيامه ولياليه للقراءة وقضى جل عمره وذروة شبابه محاطاً بجيش من الكتب والروايات وقصص التاريخ للتزود بالمعلومات والحقائق لكي يستفيد من عصارتها في المواقف الحرجة التي تواجهه وكذلك مجتمعه بما يقتضيه المنطق والضمير دون تضليل أو تحوير أو تدليس وتزوير!
وقد لعب المثقفون في عصور مضت دوراً كبيراً في واقع الناس ودنياهم، وكان لهم حضور ريادي في إصلاح الواقع، لكن ذلك لم يكن دون ثمن فقد عانوا كثيراً من شرور الجاهلين والحكام المستبدين.
فيما يقبل بعضهم أن يكون بؤراً معتمة عبر تبني مواقف تتناقض جذرياً مع الحق والإنصاف، مفضلاً العيش الرغيد تحت جناح السلطة!
المشهد الثقافي في الأزمة الخليجية لم يكن أحسن حالاً من السياسي أو الإعلامي، بل ربما كان أسوأ بعد أن خذل معظم رجاله مجموعة المبادئ الإنسانية والقيم التنويرية التي تعلموها وراهنوا عليها وملؤوا الفضاء ضجيجاً بالمطالبة بها أو الدفاع عنها، وانحازوا للأفكار القمعية والسلطوية مجاراة لأصحاب القرار أو للهروب من طائلة السجن والإخفاء القسري والإرهاب الجديد..!
أين هو المثقف الخليجي في مواجهة الأزمة التي تعيشها منطقتنا حالياً، وما دوره فيها، وما رأيه في الحصار الذي تواجهه قطر؟ وما موقفه من المطالبة بمصادرة حرية التعبير والتعاطف وإغلاق وسائل التواصل والإعلام وانتهاكات حقوق الإنسان؟!
تكمن أهمية هذه الأسئلة في نظرة المجتمعات إلى المثقفين باعتبارهم عقولاً نيّرة، على ضوء ثقافتهم التي من المفترض أنها تنشد طريق التحرر والعدالة والتنمية والتطور.
للإنصاف فإنه لا يمكن وضع الجميع في سلة واحدة، هكذا كان الحال على الدوام، في كل أنحاء العالم، وفي مواجهة الكثير من القضايا الشائكة والصعبة، وفي الخليج لم يختلف الوضع كثيراً، ومع ذلك يجب التمييز بين مجتمعات ديمقراطية مهيأة لاستيعاب مختلف الآراء، وبين ديكتاتوريات غير قادرة على سماع الصوت الآخر، لذلك جاءت قرارات الدول الخليجية الثلاث ومصر، التي تحاصر قطر، بمعاقبة كل من يبدي تعاطفاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها، لتصب في سياق مصادرة الآراء، بصورة مبكرة ومبتكرة، وإفساح المجال فقط أمام كل من يتبنى سياسة الحصار ويكيل السباب والشتائم.. دون وازع أو لومة لائم!
تنمو الثقافة وتزدهر في المجتمعات التي تنتصر لحرية الرأي والتعبير، لذلك كانت أكثر ازدهاراً ورقياً في قطر عنها في دول الحصار، فانبرت للدفاع عن قضيتها الوطنية وعن مكتسباتها الحضارية ليمارس الجميع حرية التعبير عن آرائه، دون رقيب يحاسبه، أو سجان ينتظره، ولم ينجرف المثقف القطري إلى بث السموم والدعوة للانقسام بين أبناء هذه المنطقة، وفي كل عمل يقدمه كان يراعي هذا الالتزام الأخلاقي والمصيري.
لكن في المقابل شهدت أوساط المثقفين والمفكرين في دول الحصار سقوطاً مروعاً لأسماء كنا ننظر إليها بشيء من الاهتمام قبل أن تنسلخ من أبسط قواعد الحوار وأدنى درجات الاحترام، فانجرفت خلف أخبار ملفقة دون أن تتحرى المصداقية وبنت عليها آراء مزرية دون أن تسمع الطرف الآخر فسقطت معها الموضوعية!
وإذا استثنينا المواقف السياسية التي من الوارد والطبيعي أن تكون محل خلاف فإن المطب الأكبر والذنب الأخطر هو تغافلها وتجاهلها قضايا من المفترض أنها ليست محل جدل، كما هو الحال مع انتهاكات حقوق الإنسان، التي حظيت بتعاطف ومتابعة وحرص من دول الغرب ومنظمات دولية ولم تؤثر في ضمير مثقف خليجي يدعي حرصه على منطقته وعلى تطورها وتنميتها وصيانة حقوقها.
فبغض النظر عن النمط الذي اختاره المثقف لنفسه في دول الحصار، إلا أن المسائل الأخلاقية كان يجب أن تبقى حاضرة بقوة في خضم الخلاف السياسي، لكن الشيء المذهل هو أن غالبيتهم اختارت الالتحاق بصناع القرار، وتبني مواقفهم، وترديد طروحاتهم، فظهروا بأداء سطحي طافح وتفكير ضحل فاضح لا يليق بفلسفتهم، ليعبروا عن مراهقة في خريف العمر لا تخلو من التملق والتسلق بحثاً عن مكاسب شخصية ومكافأة نهاية الخدمة!
ولو أردنا حصر المثقفين والفنانين والأدباء ورصد ما قدموه في هذه الأزمة فإننا سنحتاج إلى مجلدات، نصفها يصلح أن تهدى لموسوعة غينيس للأرقام القياسية «فصل التناقضات والإشاعات»..!
ولكن سنكتفي بعرض أربعة نماذج منهم وهم:
- د. عبدالله الغذامي مثقّف.
- عبدالرحمن الراشد مفكّر.
- د. عبدالخالق عبدالله أكاديمي.
- أحمد الجارالله صحفي.
هؤلاء الأربعة يفترض أنهم مثقفون وعندهم تجارب عميقة كل في مجاله، وحانت الفرصة ليقولوا للناس عن «الصح والخطأ».. والحق والباطل، بما تمليه عليهم ضمائرهم، لكن للأسف تحولوا إلى «مطبلين» وأبواق للأنظمة بطرح ضعيف في الرأي والمعلومة وبعضهم يؤلف قصصاً وأكاذيب، والآخر يردد ما يسمع دون تحرٍ أو تحقق، وكلهم ظهروا متلونين في مواقفهم ومستفزين بآرائهم لأنها ابتعدت عن عقولهم واقتربت أكثر من جيوبهم..!
الدكتور الغذامي «71 سنة»، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة إكستر البريطانية 1978 في تخصص النقد والمواد النظرية.. لذلك قضى حياته منظّراً وفيلسوفاً يتحدث عن قيم ومبادئ وعندما احتاجه الموقف، نسف مسيرة النضال والكفاح ليريح قلبه ويرتاح، فهو ليس في مرحلة الصدام.. هو اختار الانبطاح والاستسلام..!
الغذامي الذي يقول إنه لم يفتح العلبة التي فيها شهادته الدكتوراه منذ وصلته من الجامعة قبل 40 سنة وحتى اليوم مما جعله مثاراً للسخرية والتندر في مواقع التواصل الاجتماعي، مستنداً بذلك إلى أنه يريد إيصال رسالة معينة من خلال هذا الموقف..
وفعلاً وصلت الرسالة، وهي أن هذا الرجل رغم احترامي البالغ له في السابق يقوم بتصرفات غريبة وتصريحات مريبة وتحديداً في الآونة الأخيرة بشكل لا يتماهى مع قيمته ولا يليق بعلمه أو عمره!
الدكتور السبعيني «شطح» في حواراته الأخيرة، ومنها عندما تفلسف بالحديث عن انتقال الحكم في دولة قطر في منتصف التسعينيات؛ ليبرر تدخل السعودية وتورطها في العملية الانقلابية الفاشلة!
ورغم أن هذا شأن داخلي وتم بشكل سلمي حظي بتأييد ومبايعة، فإن الغريب هو كيف يقع مثقف مخضرم في هذا الخطأ الساذج والذي لا تحتاج إجابته الصحيحة إلى مثقف مغمور.. فما بالكم بدكتور..؟!
ونرد عليه بسؤال- وهو بالمناسبة معفي من الإجابة للظروف الضاغطة على المفكرين، والعقوبات «الداعسة» على المتعاطفين- والسؤال هو:
كيف ستتقبلون أي رد فعل سلبي خارجي على التغيير الأخير الذي حدث في مؤسسة الحكم في المملكة العربية السعودية؟!
هل سترونه حقاً للتعبير ونصحاً وتبريراً أم تطفلاً على شؤونكم الداخلية..؟!
أما النقطة الثانية التي تطرق لها الدكتور دون تحقق وربما بقصد الإساءة لقطر وهو بذلك مشارك ومساند وداعم في نقل الباطل.. مساهمته في نشر فيديو لـ «بزر» يبحث عن شهرة يتحدث بشكل مسيء عن مشاركة القوات القطرية في حرب اليمن ضمن قوات التحالف.. بأسلوب طفولي وكأنه يتحدث عن مسلسل كارتون في «سبيس تون»!
الغذامي بهذا التصرف كأنه مراهق في بداية العشرين، ولو أنه كلف نفسه قراءة سير الأحداث، بما أنه قارئ نهم لوجد الحقائق عند رجال الجبهة المطلعين على التفاصيل.. والتي بناء عليها كرموا القوات القطرية في أبريل 2017 ونوفمبر 2016 فيما ادعاءاتكم تسبق هذين التاريخين بشهور طويلة.. ولو كان هناك مجرد شبهة لعلموا عنها قادة التحالف في الميدان.. لأنهم صدقوا وأقسموا فقالوا الحق وكرموا من يستحق..
أما الأكاذيب الملفقة فهي خارجة من غرف السياسة والإعلام لتشويه صورة قطر وشيطنتها في جميع وسائل التواصل كضريبة لمواقفها من القضايا العربية والإسلامية.
ومن الغذامي إلى المناضل الليبرالي عبدالرحمن الراشد، الذي وصل لمرحلة من الشوفينية إلى حد الانتقاص من الآخرين والمنّ عليهم والتعصب الأعمى لرأيه؛ مما يدفعه لحشر أنفه في قضايا الدول الأخرى ومواقفها.. يشكك تارة ويهدد تارة أخرى، وهو يعلم أن كلامه ووعيده لا يتجاوز كنبة «مكتبه» ولا يؤثر في ريما «مكتبي»..!
تعاير الكويت يالراشد بتحريرها وتمنّ عليها نتيجة حيادها ونزاهتها في الأزمة الخليجية التي افتعلتموها عندما ربطت الشياطين..
يا عبدالرحمن «غير الراشد» الوقوف مع الكويت أو غيرها من دول مجلس التعاون الخليجي واجب لا فضل فيه أو جميل والخطر الذي يهدد عضواً هو مهدد حتمي للجميع..
والتحرير ساهمت فيه 32 دولة وليست دول الحصار وحدها حتى تتغنى بهذا المجد وتذكّر به.. وهذا حديث لا يتلفظ به سوى ضعاف العزوم ولا يليق إلا بـ «الرخوم»..!
النموذج الثالث هو الدكتور الأكاديمي الإماراتي عبدالخالق عبدالله الذي يبدو أنه يحاول الاتزان والظهور كواعظ ومصلح اجتماعي ومحلل سياسي، لكنه يقع في شر أعماله وتناقضاته، وكلما حاول التقول على قطر يكون قد نزع رداء من جسد إمارته وأفعالها الشريرة وأعمالها الشيطانية حتى باتت «عارية» أمام الرأي العام العالمي!
يقول في إحدى تغريداته الخطيرة: «قطر تتخندق خلف فرقاطة تركية»!
يقول هذا الكلام على أساس أن الجيش الإماراتي الوطني يضم من أفراده إلى ضبّاطه من القبائل والحمايل ومن أهل الدار.. وليس جيشاً مستأجراً لقواعد فرنسية ومصرية ويضم عصابات وميليشيات ومرتزقة من «البلاك ووتر» وعناصر أجنبية لحراسة القصور الرئاسية!
إذا كان بيتك من زجاج فغطّ وجهك يا دكتور!
وفي تغريدة أخرى يدعو للنصح بعدم التعرض للرموز ويطالب بالتهدئة.. بينما كل قيمه الإنسانية وضميره الأخلاقي كان في إجازة مدفوعة الراتب طوال الشهرين الماضيين وجارته قطر تتعرض للسب والقذف والطعن والتزوير والتزييف والتحريف والقرصنة والفبركة والحصار وانتهاكات لحقوق الإنسان.. لكن الدكتور ما يقدر يخالف تعليمات «طويل العمرررر»..!
أما النموذج الأخير فهو لا يستحق عناء الرد عليه، فهو بتغريداته يكشف ضحالة تفكيره ويهاجم نفسه من خلال ما يورده من معلومات مغلوطة، رغم أنها سهلة ومتاحة ويعرفها حتى طلاب الصف السادس الابتدائي!
أحمد الجارالله «75 سنة»، رئيس تحرير صحيفة كويتية، بدأت أعراض زهايمر من نوع فاخر تداهمه رغم محاولات تشبّبه الدائمة، فصبغ الشنب لا يكفي لتغطية الجهل المعشش في مخيلته وتغريدته عن الإمارات خير دليل.. إذ قال لا فض فوه ولا عاش حاسدوه:
«الملك عبدالعزيز قال ما يهزم بيرق حرب وفيه أبناء الإمارات. وقال عبدالناصر لن تستطيع أي قوة أن تضرب قبائل الإمارات لأنهم من أعظم القبائل»!
انتهت تغريدته الجهبذية ولم تنته تعليقات النشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي والتي نورد منها النص التالي: الملك عبدالعزيز توفي 1953 وعبدالناصر 1970 فيما الإمارات تأسست 1971..!!
وبس.. هذا هو الجارالله الذي لا يعرف من الصحافة وقواعدها وثقافتها إلا لبس «البشت» و«اللفلفة» على الدواوين وشيوخ الخليج!
وزير الإسكان السعودي السابق ماجد الحقيل صاحب التصريح الشهير: «لا نعاني أزمة إسكان وأراضٍ وإنما نعاني أزمة فكر»..
نحتاج أن نستعيد تصريح هذا الوزير، الذي فقد منصبه بعد سنة وبضعة أشهر من تكليفه، لنعيد إسقاطه على الوضع الراهن بعد التعديل:
المشاكل الخليجية تعاني «أزمة فكر»!
والغريب في الموضوع أن المذكورين وغيرهم من المثقفين تجاوزوا الستين والسبعين من العمر والمفترض أنهم في مرحلة النضوج الكبير لكن ما نشاهده حالياً هي المراهقة بعينها..
عندما شاهدت مسرحية الفنان الكبير عبدالحسين عبدالرضا في منتصف التسعينيات «مراهق في الخمسين» كان طابعها عاطفياً ورومانسياً.. اليوم وبعد 22 سنة اكتشفنا المراهق الثقافي والسياسي.. واقتنعنا أنهم الأخطر على مجتمعاتنا؛ فمن ينقل خبراً من غير دليل ويصطف في ذيل الطوابير ويثير الفتنة والاستفزاز بين الجماهير ويتنكر للقيم والمبادئ والقوانين.. فهو حتماً مراهق في الفكر و«مسجّل خطر»، سواء كان شاباً في الثلاثين أو حتى عجوزاً بـ «عكازين»!
بقلم : محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول