«الهوامل والشوامل» عنوان كتاب يتضمن 175 سؤالاً موجهاً من أبي حيّان التوحيدي لابن مسكويه في مختلف حقول المعرفة، وأطلق على أسئلته الهوامل وهي تعني الإبل التي أهملها صاحبها فتاهت، أما أجوبة ابن مسكويه فهي الشوامل أيّ حيوانات الحراسة التي تعيد الإبل إلى جمعها وهذه الأسئلة والأجوبة ما هي إلا مراسلات ومساجلات بين طرفين مهمين من أطراف الفلسفة والأدب في القرن الرابع الهجري.والتوحيدي أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء، إن سأل فهو ليس بسؤال خالي الذهن من خبر، بل هو استفهامٌ خبري في فحواه وقد صيغ صياغة عميقة المغزى وبعيدة المرمى والهدف، كما ستلمح في أحيان كثيرة في هذه الأسئلة الشيء الكثير من الإشارات الذهنية الدقيقة التي لا تُتاح إلا لمتأمل من المتأملين وعارف بأحوال عصره.

وكأنّه سؤال من يختبر كيفية مرور القضايا والمواقف والمسائل الحياتية نفسها التي مرّت عليه ليرى كيف بدت حين مرّت على الآخرين من مثل ابن مسكويه من علماء عصره ـ الملقب بالمعلم الثالث ـ وقد أدى أمامه دور المحاور الفطن باحتراف.

وسأورد لكم أحد الأسئلة التي طرحها التوحيدي على ابن مسكويه وهي مسألة طبيعية خلقية، يقول التوحيدي: «ما سبب الصيت الذي يتفق لبعضهم بعد موته، وأنه يعيش خاملاً ويشتهر ميتاً كمعروف الكرخي»؟

وجاءت إجابة ابن مسكويه كالآتي:

«معظم السبب في ذلك الحسد الذي يعتري أكثر الناس، لا سيما إذا كان المحسود قريب المنزلة من الحاسد أو كان في درجته من النسب أو الولاية ؛ فإنّ هذه النسب إذا تقاربت بين الناس فاشتركوا فيها ثم انفرد واحد منهم بفضيلة نافسه الباقون فيها وحسدوه إياها، حتى يحملهم على أن يجحدوه آخر الأمر؛ ولذلك قيل: أزهد الناس في عالمٍ جيرانه».

فأمّا البعيد الأجنبي؛ فإنّه لما لم يجمعه وإيّاه سببٌ خفّ عليه تسليم الفضل له، وقلَّ عارض الحسد فيه؛ ولأجل ذلك إذا مات المحسود وانقطع السبب الذي بينه وبين الحساد أنشؤوا يُفضِّلونه ويُسلِّمون له ما منعوه إياه في حياته.

ألا تجد في سؤال التوحيدي سؤالاً مكرراً عبر العصور يصور معاناة كلّ مبدع في شتى مجالات الحياة فن، أدب، إدارة، حرفة أو أي شأنٍ آخر فتجد المبتدئ يعامل معاملة الخبير، والجاهل يتصدر المشهد ليتوارى جراء ذلك العالم منهم والعارف والمحترف على استحياء وحرج من ملاقاة الجحود والنكران وجهاً لوجه. تُرى لماذا يُجحد الفضل وأهل الفضل ويُقابلون بالتجاهل وإشاحة الوجوه دائماً في حياتهم وكأنّ الفرد فيهم لم يكن يوماً حاضراً ومؤثراً في موقعه، وعندما يغادره للأبد تُبسط الألسنة في مدحه ولا تنتهي من سرد صفاته وخصاله الحميدة.

أما السبب الذي أورده ابن مسكويه مُعللاً أعجب لانطفاء صيت المرء في حياته وهو الحسد، وهذا لا ينتهي مفعوله إلا بموت المحسود لانقطاع عمله وزوال أثر منافسته!

ياله من سبب ينبع من ضعف النفس الإنسانية وقلة همتها وخبثها وخمولها، وما هو إلا سكوت عن فضل الآخرين يشبه السكوت عن فتنة بغية إماتتها!

وفي الواقع لن تجد ما هو أشد إيلاماً وتدميراً للمبدعين بل إحباطاً لهم من تجاهلهم واستبعادهم من الأماكن التي لا تليق إلا بهم..

ولو عدنا للتوحيدي وابن مسكويه فسنجد أن التوحيدي قد قام بحرق أغلب مؤلفاته وكتبه عندما تجاوز التسعين من عمره بسبب عدم تقدير مجتمعه له وسؤاله جاء مُعبراً ومُشيراً لمدى معاناته وقهره بينما ابن مسكويه فقد نال الحظوة والتقدير البالغين من الولاة في عصره وزمانه.

كلمــــة أخيــــــرة:

يقول ابن مسكويه المؤرخ والفيلسوف والشاعر:

«الرجل النجد كأنّه المرتفع عن الضيم، الذي علا عن مرتبة من يُستذل ويُمتهن، كالنجد من الأرض الذي هو ضد الغور».