في عمر السابعة عشر وفي المضيبي الولاية الشرقية في عُمان، حيث الريف البعيد كل البعد عن ملعب أولد ترافورد، ولدت رحلة هذا الشاب العُماني، وعبر الطبع الإنجليزي الهادئ وباله الطويل، رغم أنه يسعى لمستقبل غير معقول، بدأت رحلة علي الحبسي في خطة مدرب عُمان، جون بريدج النجم الإنجليزي، وحارس المرمى السابق في دوري البريمر ليغ، تُطربني رواية الحكاية الاجتماعية لبيئتنا البسيطة في الخليج، وتُحرك لدي ثنائية السعادة والفخر، خاصة حين تكون هذه البيئة، هي أهم معلم في توثيق المبدأ الثابت الأخير لفكر الإنسان.
في هذا العمر المبكّر، ومع والد علي حارس المدرسة، وصاحب المزرعة التي شهدت ميلاد دحرجة كرة القدم، أمام عيني الطفل الصغير، انطلقت الحكاية، ومع الوالدة العظيمة التي انتقلت إلى الملكوت المقدّس، لكنها بقيت رحمها الله في ضمير علي، أسرج الحبسي العماني راحلته، من النادي الصغير المضيبي، إلى كوكب الثلج في النرويج، وحيث أعيش هنا في كندا، اعرف تماماً ماذا يعني ان تمضي عليك 6 أشهر ما بين برد قارس وكومة ثلج، فما بالك في رحلة احترافية، ولم يتقن الشاب الصغير اللغة الإنجليزية بعد، ربما كان بريدج ذكياً حين ربط علي منذ أول وهلة، بحلمه الاحترافي (سوف تدخل عالم البريمر ليغ يا علي).
وفي طول الرحلة كان علي يخفق ضميره في حضن والديه، يتدفق الحبسي العُماني، في سرد قصته مشحوناً بالذكرى والتبسم، غير أن القصة الأخيرة في نظري، ليست انتصاراته الرياضية، العديدة، التي شهدت لها ملاعب الإنجليز، ولكنها قرار الضمير، الذي رعته والدتُه فيه، إن عهد الله فيك يا علي ألا تغيب عن محراب الساجدين، إن لهذا الدين رياضة صمود، أن تتعلق بمراقبة مولاك وألا يفقدك مُصلّاك.
كلاعب اقتحم هذه المعاقل في سنّه الصغير، روى الحبسي حكايات ممتعة، فيها من الألم والأمل والإحباط والأخطاء والتوفيق ما هو شيّق للمتابع، فقد دخل ملعب اولد ترافورد بالفعل، ووقف يدافع عن عرين ويجان أمام 86 ألف متفرج، وخرج فريقه منتصراً، وظل يحصد الجوائز وتمطره هتافات الجماهير، وينتخبه المحكمون كأفضل لاعب في عدة مباريات، كانت في موسم حرج لمدينة ويجن، ورسالة رد اعتبار معنوي لمدرب نادي بلوتون الملاصقة، ولكن الأجمل والأعلى مقاماً، هو رفضه زجاجة الشمبانيا، التي تُهدى للاعب الفائز ليطيش عقله بعد المباراة بفرح وهوس لا حدود له.
لماذا أيها الشاب العماني ولماذا أيضا توافق معك بقية اللاعبين المسلمين، في رفض الجائزة، ألا يجب أن نُراعي الإنجليز والغربيين في سلوكهم، الا نتقدم مثلهم؟
إنه النصر المعنوي الذي يغيب عن الكثير، ليس في قارورة الخمر فقط، ولكن في الانكسار السلوكي والمفاهيمي المتعدد، يقول علي الحبسي جواباً على سؤال بودكاست بدون ورق، أنه طوال مسيرته كانت الأندية تُهيء له مكاناً للصلاة، حتى في المباريات المهمة خارج ملعب ناديه، يقدرون موقفه، الذي مَثلُ بينهم في حرصه على عهد الله ووالديه فيه.وهنا استَحضِرُ في عالم الأفكار، شخصيات اضطربت وسَكِرت بالغرب، بعد أن تمكنت منها الهزيمة النفسية، وظنت أن أزمة المسلمين الأخلاقية والنهضوية والفكرية، تعني مطلق القداسة للغرب، فتخلت عن مقام الإيمان، وسقطت فكرة الندية الحضارية لديها، فانتهت إلى نسخة غربية غير معترف بها، في معاقل أوروبا.
شدني ربط علي لمسيرته برضى والديه، وحضور والديه أحد أهم المعارك الكروية في حياته، ومعنى أن تكون شريكة حياته العمانية معه، لا التنقل بين أحضان الشقراوات، يراها البعض متعة، ونراها نزوة تائهة تسقط أمام متعة الحياة الحقيقية، مع امرأة تحبها وتحبك، قد أقام الله عليكما خيمة رضاه.
كم وددتُ أن يتوقف الشباب في هذا التأمل العميق، في رحلة علي الحبسي، وأن انطلاقهم للنجاح في ملعب الحياة وهو ملعب صعب، شبيه بمباراة كرة قدم، ينكشف فيها التسلل لك، لكي تعود إلى موقعك الصحيح، كيف تتعمق هذه الفكرة فيك، بأن الأسرة وبوابة والديك وحظ الله في حياتك، الذي شرعه لأجلك، هو في نهاية الأمر لصالحك، القيم الإسلامية لا تمنع تقدمك ولا تُعطّل مغامرتك المشروعة، ولكنها تستودعك في رعاية لدُنيّة، حين تقوم الصلاة في روحك، وتغمرك صلواتُ أمك فتجدها حولك، رغم بعد المسافة.
ختم علي الحبسي رحلته الممتعة بعد أن سرد تحدياته ونجاحه، فاستحضرتُ اصطفاف جمهور بلوتون في ليلة الوداع الأخير، للاعبهم المنتقل، فإذا المدرج ينشر تحيته بالعربية، لتحية الماجد العماني مسطرةً بـ «شكراً جزيلاً علي».
