+ A
A -

عندما غزا القائدُ القرطاجيُّ العظيم «هنيبعل» إيطاليا في العام 218 قبل الميلاد، جُنَّ جنون روما، المدينة الإمبراطورية لم تعتدْ أن تكون في موقف الدفاع أبداً.. كل واحدٍ من قادتها العسكريين أراد أنْ يُسجِّل التاريخ أنه هو الذي سحقَ عدو روما، ولكنهم جميعاً كان لهم رأي واحد، الخروج بالجيش لملاقاة «هنيبعل».. وهذا تفكير طبيعي، وهكذا تجري الأمور عادةً، وحده الجنرال «أفريكانوس» نظر إلى الأمر بطريقة مختلفة، لقد أخبر مجلس الشيوخ في روما أن المشكلة لا تكمن في «هنيبعل» نفسه، أو في قاعدته في إسبانيا، أو في قدرته على التزود بالغلال من قرطاج في تونس اليوم عن طريق البحر، وإنما المشكلة في قرطاج نفسها، إنها بلد يكره روما، وثمة صراع متزايد بينهما على زعامة العالم، وبدلاً من مواجهة «هنيبعل» في إيطاليا كانت خطة «أفريكانوس» هي مهاجمة قرطاج نفسها. أُعجب مجلس الشيوخ بهذه الخطة، وعقد لواء الحرب له، وبعد شهر كانت جيوش روما تُدمِّر قرطاج عن بكرة أبيها، وهكذا لم يستطِعْ «هنيبعل» مهاجمة روما، ولا استعادة قرطاج!

من المقولات التي تعجبني للرائع علي عزت بيغوفيتش: لا تقتلِ البعوض وإنما جفف المستنقعات!

إنَّ ما قاله بيغوفيتش، هو بالذات ما فعله «أفريكانوس» قبل آلاف السنين: قطع جذور المشكلة.

للأسف إن النَّاس عندما يقررون حلَّ مشكلة ما فإنهم يقومون بحل الجزء الظاهر منها، نتائجها، وهذه الحلول المقدمة ستبقى حلولاً ترقيعية، والسبب أننا لم نعالج السبب..

لو أن طريقاً مليئاً بالمسامير والزجاج وبما من شأنه أن يثقب إطار سيارتك فإن الحل السطحي لهذه المشكلة أن تجعل معكَ أكثر من إطار احتياطي، هنا أنتَ قد جعلتَ نفسكَ عرضة للظروف التي تتحكم بكَ، بينما العبقرية تكمن أن تتحكم أنتَ بالظروف، إما أن تسلكَ طريقاً آخر، وإما أن تُنظف الطريق، أنت وكل الذين يعانون معكَ من نفس المشكلة..

الزجاج المكسور في البيت يسمح للهواء البارد في الدخول شتاءً، ويكشف عورة البيت صيفاً، والحل السطحي لهذه المشكلة هو تركيب مدفأة إضافية، أو تغطية قاطني البيت على مدار الساعة، بينما الحل العاقل يكمن في إصلاح الزجاج والتوفير على النفس العناء من النتائج المترتبة على عدم الحل الجذري للمشكلة.

هذه أمثلة حقيقية من الحياة اليومية تبدو الحلول لها من البداهة بمكان بحيث لا تحتاج إلى نقاش، وهي من المسلمات التي لا ينتطح فيها عنزان!

أما في الحياة العامة فتبدو الجذور غير واضحة المعالم تماماً، وتبدو النتائج أكثر إلحاحاً بالمعالجة. نحن ننفقُ على علاج المشكلات الناتجة عن البطالة أكثر مما نحتاج لو عالجنا مشكلة البطالة نفسها..! وإن كلفة إنشاء مدرسة في قرية ليس فيها مدرسة هي أرخص بكثير من معالجة تبعات ألا تكون هناك مدرسة!

السطحيون يدرسون أسباب المشكلات التي تحصل بين السجناء، أما الراسخون في الفهم فيدرسون أسباب دخول السجناء إلى السجن أولاً.

أنتَ حين تبحث عن حلول لمشكلات السجناء داخل سور السجن تتركُ باب السجن مفتوحاً على مصراعيه ليدخل آخرون، ثم ليصبحوا بعد ذلك مشكلة جديدة تحتاج إلى حل جديد.. أسوأ ما في المشكلات المترتبة على عدم حلها من الجذور هي أنها تتفاقم مع الزمن بحيث تتحول إلى كتلة من العقد..!

copy short url   نسخ
17/07/2023
930