+ A
A -
مدير مكتب دراسات الشرق بإسطنبول
هناك أسئلة كبيرة مشروعة أمام التحوّل الذي اختطته حركة حماس، في قرارها السياسي الأخير بقبول التخلي الكلّي، عن السلطة الإدارية في غزّة وتسليمها إلى السلطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن، وهي أسئلة لا تعتمد تزكية حماس، ولا يجوز أن ترفعها من قائمة النقد، وخاصة أن قرارات الانعطاف مستمرة، بما فيها احتمال العودة إلى دمشق وافتتاح مكتبها هناك، الذي نُقل عن قيادي في حماس.
وهو يأتي في ظل انصرام مأساوي، ومرحلة تيه دخلته الثورة السورية، إرهاب النظام وحلفائه والخيانة الدولية لقيم الإنسانية، لا يُلغي المسؤولية التي تتحملها فصائل الثورة وأصدقائها، خاصة الذين ساهموا بتمكين السلفية الجهادية من ميدانها وتفتت الثورة العجيب، وهو اشكال عميق جداً لا يشمل الميدان فقط.
لكن عَزّز أيضاً تشظيها السياسي، حتى باتت كممثليات متعددة التوجه بحسب الدعم المادي، الذي تقاطعت معه ثورات عديدة، ومن نجى منها لأنه حوّل الدعم لمسار التقاطع المصلحي، وليس قرار الثورة، وهنا فارق كبير للغاية.
لكن من الواضح أن أزمة الثورة ونخصصها في هذا الفصل لسبع سنوات، منذ انطلاقتها، اذ أن روح الثورة التي قدمت نصف مليون شهيد وملايين اللاجئين والجرحى، لا يمكن أن تغرب شمسها الشاملة، ولكن متى يبعث الله روحها من جديد، بعد أن تتخلص من آثام التدخل، وبراكين العاطفة التي اجتاحت النفوس، وهيئت لانقسامات وانقسامات داخل الانقسامات، فهذا متروك للزمن القادم.
أما الآن فالثورة تتصفّى عبر النظام وداخلياً، ثانياً حقيبة التوافق الدولي والإقليمي، الذي باتت تتعامل معها كل الأطراف بما فيها الحليف الإنساني لثورة سوريا وهي تركيا، أي أن التعامل الآن بات واضحاً لما بعد الثورة، وليس مع الثورة.
وهو يتزامن مع الحصار الأخير للائتلاف الوطني السوري، وإدخاله في خيمة موحدة مع منصة موسكو، والغرض من الطرف العربي، هو مجرد التخلص من عبء الثورة وليس أي حل تعتمد موازينه على الأرض، كما هو المعتاد في ختام الثورات، ويكفي الاطلاع على خريطة النفوذ، والانسحاب الكبير للثورة من جغرافية سوريا، أمام النظام وجهات التوظيف العديدة المؤقتة، لإدراك عمق الأزمة.
هنا يبدو خيطا رفيعاً للفهم، ما بين أزمة حماس وأزمة الثورة السورية، وهو مهم جدا في مدخل المقال المركزي، وهو أن حماس التي حتى اليوم لا يمكن قياس حصيلة كفاحها الأخير المخلص بدقة، منذ قرارها الأول في مواجهة الأمن الوقائي، وخاصةً حين قرر دحلان مدعوماً من السلطة ومن إسرائيل نقض بنية المقاومة الفلسطينية، فتمت مواجهته بحسم، انتهى إلى استلام اضطراري لغزة من قبل حماس، وتأمين ما يسمّى دحرجة مشروع المقاومة. فهل تخلت اليوم حماس عن هذا المشروع، أم تسعى لتأمينه وتأمين شعب غزة من حرب استئصال لم تعد لديها فيه، أي قدرة على تأمين وسائط الدفاع الرادعة.
لكن حماس طوال فترة تلقيها الدعم المختلف، من أطراف متباينة أحياناً، كانت توجّه الدعم إلى إسناد قرارها، الذي يأخذ مصلحياً ظروفها وظروف الشعب الفلسطيني، ولم تقبل أن يمر بأرضها أي دعم يُنشئ مناطق، ومؤسسات وجبهات عديدة باسم المقاومة، كما جرى في سوريا، كما أنها تعاملت بحسم منذ البداية مع السلفية الجهادية، وعبر العنف القانوني، فهل هذا تكرر مع الثورة السورية؟
الجواب هو العكس تماماً، لقد تمكنت مشاريع الدعم من أرض الثورة وفرقت قياداتها، وفرقت كلمتها وأنشئت لكل منصة اذرعة سياسية وإعلامية وجبهوية، وهو امرٌ يحتاج للتأمل بعمق لإدراك أزمة الثورة السورية، وليس لتزكية حماس المطلقة.
لكن حركة حماس تعيش حالياً مأزقاً ضخم، فقد وُضعت في مواجهة الحرب المزدوجة بين الجيش الإسرائيلي المدعوم من منصات خليجية اليوم، بصورة شبه رسمية، والجيش المصري معاً، في توقيت يُحاصر عبرها أكبر داعمي مناطقها الإنساني والإعلامي وهي قطر، وفي وقت تُستهدف فيه كل قواعد شعبية تتضامن مع فلسطين، ومقاومتها المشروعة.
أما إيران التي كانت عبرها حماس تحصل على دعم، مستثمرة تقاطع حاجة طهران للقضية الفلسطينية لتغطية مشروعها الطائفي والإقليمي الخاص، فهي اليوم أزهد في حماس من المرحلة السابقة، والنجاحات التي حققتها طهران خاصة بخدمات أزمة الخليج الأخيرة لها، جعلها أكثر تمكناً في الإقليم، والمستقبل المنظور لها يتعزز دوليا وإقليميا.
فهل كان على حماس، القبول بخوض المعركة الحربية مع الجيشين في ظل هذا الوضع؟
ولماذا قبلت بعرض دحلان ممثلا لأمارة ابوظبي إذن للتفاوض؟ يجب التذكير هنا بحجم ما تمر بها الأمة العربية من تحديات، تُشابه واقع العنق الأخير لأيام الاحتلال الشامل للمنطقة، كما أنه لا بد من ربط ذلك بان المشاريع الأخرى في المنطقة، العراق الإيراني الجديد ما بعد داعش الإرهابية، وسوريا الجديدة بعد إعادة تأهيل الأسد والمباركة الضمنية لأعماله الإرهابية.
والأردن المستقطب اليوم لعدة صفقات، كلها تدخل في حسابات إسرائيلية مباشرة، باتت تتعامل معها ومع الأزمة الخليجية خصوصاً، وبوضوح يعلن إسرائيل حليفا فيها ضد الإسلاميين وفلسطين، وبالتالي رغبة العديد من الأطراف لاستخدام التحالف مع تل ابيب، كإسناد مباشر لمشاريعه الخاصة.
غير أن ذلك كله لا يُلغي أن الحسابات قد تتعارض، داخل منظومات التفكير الجديد لحلفاء تل أبيب، وفي تقديري أن مفاوضات حماس مع أمارة ابوظبي عبر مشروع دحلان، كان يهدف لزيادة الضغط على المحور الآخر في هذه القضية، ودفعهم للتعامل معها كطرف سياسي قائم، وإن أُسندت المهمة للمخابرات المصرية المعادي الشرس لحماس وللمقاومة الفلسطينية، خاصة بعد تبني الاعلام المصري رسميا فكرة الشعب الغزي العدو.
فمستوى الخنق للشعب الفلسطيني في غزة، وصل إلى مرحلة متطرفة عنيفة جداً، وتكاليف القيادة الإدارية لغزة باتت أمام حائط مسدود، فهل هذا يلغي نقد حسابات حركة حماس؟، طبعا لا يلغيه لكن لسنا بصدد حسم ذلك، لكننا نقول إن الانهيارات الكبرى في المشرق العربي، كانت خارج إطار المنظور العام للتحليل السياسي، وهنا كان على حماس أخذ قرار الانفتاح على مصر، بعد مخاض الأحداث الصعب، بعد أن نجحت مناورتها مع أمارة ابوظبي، وحققت الرسالة المطلوبة.
ستبقى هناك أسئلة صعبة للغاية، في التأمين الوجودي للمقاومة في غزة، تبرز أمام حركة حماس، وماذا بعد قبول أبو مازن الفوري، الذي كان اضطرارياً لأمرين، أولاً وقف مشروع تصفيته الذي تصر عليه ابوظبي واستبداله بمحمد دحلان، من داخل حركة فتح ذاتها، والثاني هو التعامل مع الصفقة المصرية مع حركة حماس التي لا يمكن تجاهلها، ولا بد له من القبول بها، فلا مجال للتسويف أمام النظام الأمني المصري.
ولكن السؤال المهم هنا، ماهي مصالح نظام الرئيس السيسي، من هذه الصفقة، وهل هو خلاف فعلي مع أمارة ابوظبي، القوية في القاهرة والرياض في قضية غزة؟
هناك في مصر ما يُطلق عليه الدولة العميقة منذ عهد الرئيس مبارك، هذه الدولة العميقة لها حسابات أدق لمصالحها الشاملة أمام التعامل مع مصالحها في ابوظبي، بكل تأكيد أن الأمر لا يصل لصراع مع ابوظبي.
لكن قضية الموازنة بين أن تتسلم ابوظبي قطاع غزة، كمشروع تحالفي مع تل أبيب، وبين تسلم الرئيس عباس وما تبقى من إرث مصري مع فلسطين وحركة فتح، يبدو فارقاً مهماً للغاية، يترجح عبره الخيار الثاني، حتى لا تفقد القاهرة ورقتها الــــــتاريخية في غزة، وفي نهاية الأمر لن تستطيع أمارة أبو ظبي التي فاوضت حماس عــــــبر دحلان مواجهة القاهرة، وإن سهل عليها مـــــــواجهة أبــــــو مازن داخل فتح.
الأمر الآخر أن دخول الجيش المصري في حرب ثنائية ضد غزة، له تكلفة سياسية كبيرة في ظل الفشل الحقوقي والسياسي للرئيس السيسي، فالحسابات هنا، تعني أن تواري ملف حماس في غزة ولو مرحلياً، وبيد سلطة إدارية متنازعة تحت الأرض بين فتح وحماس، تنظمها القاهرة أفضل لمصر من أي مشروع آخر، تقوده ابوظبي.
هنا توافقت مصالح الضرورات، لكن المشهد السياسي المتفجر في المنطقة لا يزال لم تركد قدره، وإنما حصيلة الأمر لحماس أنها دفعت بما تستطيع الدفع به للخطر الأكبر على الأرض اليوم، وعملت على نزع ورقتها من سوق الصراع في الأزمة الخليجية، وفي المشرق العربي، وهو مفيد لها ولشعبها، وخاصة في عنق الجحيم الخطير للشرق الممتحن.
بقلم : مهنا الحبيل