في ندوة تليفزيونية على قناة فضائية «المستقلة» عن التعليم الجامعي في العراق في ظل عهد الرئيس صدام حسين استوقفني قول أحد الأساتذة الذي يشير فيه إلى أن استراتيجية التعليم أغفلت «الإنسانيات» وركزت على العلوم.. وإن الرئيس صدام كان مهتما بالفيزياء والكيمياء والرياضيات والطب والهندسة، ولا يولي اهتماما كبيرا للآداب.. وكان تعليق أحد الحاضرين على ذلك بالقول إن هذه الاستراتيجية كانت نابعة من خوف النظام الحاكم من علوم الآداب.. التي تفرز دعاة إصلاح: شعراء ومحامين وأدباء وكتابا بحجم محمد مهدي الجواهري، والزهاوي والرصافي والسياب والنجفي وغيرهم من الذين حملوا هم العراق وغنوه شعرا ونثرا، وحملوا هم الأمة العربية بمشاركة بشارة الخوري وخليل مطران وشوقي والبارودي أولئك العمالقة الذين ركزوا قولهم شعرا ونثرا لإصلاح السلطة العثمانية أو استقلال العرب وهو ما نجده في قصائد بشارة الخوري وخليل مطران في «اليتيمة» و«المشردة» و«الأم الجائعة» و«فتاة الجبل الأسود» و«بزر جمهور».
وقد يكون ذلك القول للأستاذ الجامعي والمعقب في تلك الندوة تبريرا غير منطقي لحالة الجدب في الأرحام العربية التي توقفت عن إنجاب العمالقة وأن تركيز النظام العراقي على العلوم لم يكن فرديا، أو نابعا من خوف على السلطة من فرسان الكلمة بل كان توجها عربيا عاما للحاق بركب العلوم التي بها تتقدم الأمم، ففارس الكلمة من السهل- في ظل نظام عسكري قوي- وضع الماء في فمه، وهو ما عبر عنه آخر العمالقة: محمد مهدي الجواهري في قصيدته التي مدح بها العاهل الأردني الراحل والتي كان مطلعها: «يا سيدي اسعف فمي» ففمه كان مملوءا بالماء.
وفارس الكلمة لا يحتاج إلى جامعة ولا يحتاج إلى معلم يحتاج إلى مجتمع يقدر دور الكلمة.
لقد استوقفتني تلك الندوة، وتمنيت أن يكون أحد عمالقة الكلمة مازال حيا ليرى كيف تبرر الأشياء، تمنيت أن يكون محمد مهدي الجواهري الذي فارق الحياة قبل سنوات قليلة حيا ليقول لهم إنني كنت طفلا في زي شيخ وقور أعتمر العمامة وألبس الجبة وأتحدث بلغة أهل الذكر، أصطحب والدي إلى مجالس الشيوخ والفقهاء، وفي غفلة عن والدي كنت أذهب أثناء قيلولته في السرداب البارد لأحفظ شعر الفحول، ولقد حفظت «450» بيتا في ثماني ساعات، وفزت بجائزة المدرسة وبزجر والدي، وقد لازمتني حالة الحفظ هذه حتى آخر يوم في حياتي.
كنت أتمنى أن يكون الجواهري مستمعا ليقول إن فارس الكلمة تصنعه الحياة وأعترف أنني شاعر التناقضات والمتناقضات فقد مدحت الملك فيصل الأول ومدحت عبدالكريم قاسم قاتل العائلة الهاشمية.
لقد هللت للثورات ثم هربت من بطشها وانقلبت عليها حين رأيتها لا تحقق العدالة والكرامة، وقد خرجت من كل ذلك منفيا صفر اليدين، كنت منفيا في وطني بعد أن هاجمت حكومة نوري السعيد الذي وقع اتفاقية معاهدة 1930 مع بريطانيا، فعطل نوري صحيفتي «الفرات» وحين قام العميد بكر صدقي وحليفه سليمان حكمت بانقلاب على حكومة نوري مدحت الانقلابيين بقصيدة كانت من أقوى وأشهر شعري في الثلاثينيات وكان عنوانها «تحرك اللحد» وقصدت أن تكون لحدا حقيقيا للرجعية والإقطاع والاستغلال، فلا تدينوا نظاما- فررت منه لأنجو بروحي- على عقم إنجاب فرسان الكلمة.. فقادة الفكر يصنعهم المجتمع.. وفرسان الشعر كما كانوا في الجاهلية لا يحتاجون لمعاهد وجامعات وليس كل خريج إنسانيات يكون فارس كلمة أو قادرا على أن يشكل رؤية قومية وطنية كما يشكلها فارس كلمة أنتجه المجتمع.
بقلم : سمير البرغوثي
وقد يكون ذلك القول للأستاذ الجامعي والمعقب في تلك الندوة تبريرا غير منطقي لحالة الجدب في الأرحام العربية التي توقفت عن إنجاب العمالقة وأن تركيز النظام العراقي على العلوم لم يكن فرديا، أو نابعا من خوف على السلطة من فرسان الكلمة بل كان توجها عربيا عاما للحاق بركب العلوم التي بها تتقدم الأمم، ففارس الكلمة من السهل- في ظل نظام عسكري قوي- وضع الماء في فمه، وهو ما عبر عنه آخر العمالقة: محمد مهدي الجواهري في قصيدته التي مدح بها العاهل الأردني الراحل والتي كان مطلعها: «يا سيدي اسعف فمي» ففمه كان مملوءا بالماء.
وفارس الكلمة لا يحتاج إلى جامعة ولا يحتاج إلى معلم يحتاج إلى مجتمع يقدر دور الكلمة.
لقد استوقفتني تلك الندوة، وتمنيت أن يكون أحد عمالقة الكلمة مازال حيا ليرى كيف تبرر الأشياء، تمنيت أن يكون محمد مهدي الجواهري الذي فارق الحياة قبل سنوات قليلة حيا ليقول لهم إنني كنت طفلا في زي شيخ وقور أعتمر العمامة وألبس الجبة وأتحدث بلغة أهل الذكر، أصطحب والدي إلى مجالس الشيوخ والفقهاء، وفي غفلة عن والدي كنت أذهب أثناء قيلولته في السرداب البارد لأحفظ شعر الفحول، ولقد حفظت «450» بيتا في ثماني ساعات، وفزت بجائزة المدرسة وبزجر والدي، وقد لازمتني حالة الحفظ هذه حتى آخر يوم في حياتي.
كنت أتمنى أن يكون الجواهري مستمعا ليقول إن فارس الكلمة تصنعه الحياة وأعترف أنني شاعر التناقضات والمتناقضات فقد مدحت الملك فيصل الأول ومدحت عبدالكريم قاسم قاتل العائلة الهاشمية.
لقد هللت للثورات ثم هربت من بطشها وانقلبت عليها حين رأيتها لا تحقق العدالة والكرامة، وقد خرجت من كل ذلك منفيا صفر اليدين، كنت منفيا في وطني بعد أن هاجمت حكومة نوري السعيد الذي وقع اتفاقية معاهدة 1930 مع بريطانيا، فعطل نوري صحيفتي «الفرات» وحين قام العميد بكر صدقي وحليفه سليمان حكمت بانقلاب على حكومة نوري مدحت الانقلابيين بقصيدة كانت من أقوى وأشهر شعري في الثلاثينيات وكان عنوانها «تحرك اللحد» وقصدت أن تكون لحدا حقيقيا للرجعية والإقطاع والاستغلال، فلا تدينوا نظاما- فررت منه لأنجو بروحي- على عقم إنجاب فرسان الكلمة.. فقادة الفكر يصنعهم المجتمع.. وفرسان الشعر كما كانوا في الجاهلية لا يحتاجون لمعاهد وجامعات وليس كل خريج إنسانيات يكون فارس كلمة أو قادرا على أن يشكل رؤية قومية وطنية كما يشكلها فارس كلمة أنتجه المجتمع.
بقلم : سمير البرغوثي