قالَ الحضرميُّ: أقمتُ مرةً بقُرطبة، ولازمتُ سوقَ كتبها مرةً أترقبُ فيه وقوع كتابٍ كانَ لي بطلبه اعتناء، إلى أن رأيته بخطٍ جميل، وتفسيرٍ مليح، ففرحتُ به أشد الفرح، وجعلتُ أزيدُ في ثمنه، فيرجعُ إليَّ المُنادي بالزيادة عليَّ، إلى أن بلغَ فوق حدِّه!فقلتُ له: ما هذا؟ أرِني من يزيدُ في هذا الكتاب حتى بلغه ما لا يساوي!فأراني شخصاً عليه ثياب الرئاسة، فدنوتُ منه، وقلتُ له: أعزَّ الله سيدنا الفقيه، إن كانَ لكَ غرض في هذا الكتابِ تركته لكَ، فقد بلغتْ به الزيادة بيننا فوق حدِّه.فقالَ لي: لستُ بفقيه، ولا أدري بما في الكتاب، ولكني أقمتُ خزانة كتبٍ لأتجمل بها بين أعيانِ البلد، وبقيَ فيها موضعٌ يسعُ هذا الكتاب، فلمَّا رأيته حسن الخط، جيد التجليد، استحسنتُهُ، ولم أبالِ بما أزيد فيه، والحمد للهِ على ما أنعمَ به من الرزقِ فهو كثير!فقلتُ له: سُبحان الله، قد يُعطي الجوز لمن لا أسنان له! قد كنتُ قبل اليوم أحسبُ أن التباهي الثقافي وليد هذا العصر، فإذا به قديم جداً، وأن الناسَ هم الناس في كلِ عصر، تتغيرُ الأسماء فقط! ما أكثر أدعياء الثقافة، قد يشتري أحدهم كُتباً، ويصورها مع فنجان قهوة، وهو لا يدري ما في داخلِ الكتب، ولكن هذا «برستيج اجتماعي»، وموجة رائجة، يركبُها كثيرٌ من الناس! والبعضُ مُتباهٍ مُقتصد، فهو لا يكلف نفسه عناءَ شراءِ الكتبِ ليُصورها، إنه ينتظرُ صورة يضعها متباهٍ آخر، فيأخذها هو، ويُعيدُ نشرها، ويعلقُ على الصورة، هذا الكتاب جميلٌ جداً، وهو لا يعرف ما في طياته! والبعضُ يقومُ بتصويرِ كتبٍ على أنه قد قرأها في العامِ المُنصرم، ثم تجد نفس الصورةِ في عشراتِ الحسابات! طبعاً لستُ ضد تصوير كتاب مع فنجان قهوة، ولا ضد تصوير اقتباس جميل في كتاب، فهذا من مُشاركةِ الأشياءِ الجميلة، ما أنا ضده هو الادّعاء الثقافي فقط! جاءَ في سيرةِ الرئيسِ الأميركي «إبراهام لينكولن» الصادرةِ عن البيتِ الأبيض، أنه قد حازَ على كذا وكذا شهادات، وكذا وكذا أوسمة، ولائحة بالكِتب التي قرأها، فلما قرأَ لينكولن سيرته، وجدَ أنَّ من بين الكِتب المذكورة أنه قد قرأ كتاباً لم يقرأه، فطلبَ من مُساعديه إحضار الكتابِ إليه فوراً ليقرأه، لأن المرء من العيب أن يدعي فعل ما لم يفعل!
تباهي!
- 03/07/2022
- /
- آراء و قضايا
+ A
A -