كنت أتأمل بعمق تلك المقدمة الطويلة لبول سارتر، لكتاب فرانز فانون التاريخي «معذبو الأرض»، وكيف أن سارتر صنع من افتتاحيته كتيباً أو مادة بحثية مطولة، لا مقدمةً لإصدار رفيقه اليساري الذي فارق الدنيا مبكراً، ولكنه غادرها بوثيقة توقيع تاريخية، عرّى فيها الإمبريالية الفرنسية، بوقائع وتوثيقات لا في وحشيتها وحسب، ولكن في مرجعيتها الفلسفية والفكرية، التي عُريّت تماماً في محاكمة أخلاقية عادلة، دشن منصتها الفرنسي الأسمر فرانز فانون.
أراد سارتر أن ينصب له مقعداً خاصاً، حرص على أن يستفيد غاية الإفادة من مبادئ «فانون» ويتدثر بها، كونها قيماً عالية في إنسانيتها لإنصاف المستضعفين، ولروح العدالة مع إنسان عالم الجنوب، والأهم لدى سارتر ما تُمثله هذه القيم، وروح فانون ذلك الوقت، لصالح ترويج مشروعه الفكري في الجنوب وفي الشرق، باسم الوجودية الثورية.. والتي تحولت من ثورية ضد تاريخ باريس القمعي والطبقي، إلى ثورة ضد الإنسان لصالح الشهوة، ثم ارتبطت في آخر حياته، بالاصطفاف مع المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة، ولقد سبق أن شرحت هذا الملف في الإصدار الأخير (طاولة مستديرة).
أما البعد الآخر لسارتر فهو محافظته على كينونته الاجتماعية الغربية، وهو يواصل تحذيره لهذه الأمم، أن فانون ينذرنا كشعوب وحكومات أوربية، دون أن يهتم بتوجيه فلسفته في العنف الأخلاقي إلينا، إنه يخاطب الجنوب الغاضب فقط ولا تعنيه الذات الغربية، ففانون يعلن أن هذه الأمم الثائرة على أوروبا أضحت تؤمن بقواعد لعبة جديدة، لا تنتظر موافقتكم عليها.
بل إنها تهدم أي مرجعية شرعية لكم، وتُسقط ستارة التضليل المزورة باسم الإنسانوية، من حيث إنها خديعة كبرى، هذه الفكرة بالضبط كانت أحد محركات تمرد إدوارد سعيد، على رعاته في المؤسسات الأميركية وأكاديمياتها، كونه قد فجر تمرده الفلسفي في أروقتها، ولذلك كنتَ تبصر فرانز فانون حاضراً في فكره دوماً، رغم أن سعيد لم يتحول ميدانه النضالي إلى ساحة فانون، المخضبة بدماء رفاقه من الجزائريين والجزائريات، وضحايا البغي الغربي في إفريقيا.
كان سارتر في مقدمة (معذبو الأرض) يطل من مقصورته الخاصة، ولا أقصد هنا أنهُ كان مستعلياً على رفيقه، الذي أسلم الروح وحبره ملتصق بدماء الكفاح الجزائري، ولكن سارتر أدرك الروح التفاصلية القوية مع فرنسا والغرب في بعث فانون، فأراد أن يتوارى عنها، وإن دافع عن قوتها الضميرية، غير أن ساتر شعر بأن تكلفة الاندماج مع روح فانون الجديدة لها تبعات كبيرة، ربما شعر سارتر بأن هذا قد يكون مكلفاً له سياسياً، ففانون يعلن الحرب لا على القوة العسكرية لباريس وحسب، بل لأصول ثقافتها وجذور استعلائها، فحمى نفسه سياسياً.
غير أن الصفحة الأخرى تشعرك بأن سارتر، وإن مثلت قيمه وعباراته مبادئ إنصاف، وتعاضد مع الجنوب العالمي، وهذه حقيقة لا بد أن تسجل لسارتر، كان في ذات الوقت وخاصة في مآل مشروعه الفكري، يرتبط بالفلسفة الاجتماعية التي نحتتها أصول التنوير الغربي الأخير، وهي مرجعية النزوة والشهوة، لحصر قيم الحرية المطلقة في سلوكيات نمطية للذات الإنسانية، التي أَسقطت اعتدال كانط وديكارت وروسو، وفصلت التنوير القديم المرتبط بالروح، عن التنوير الحديث الذي رُبط بالنزوة.
ولكن فانون كان يسير في ظلال الماركسية الملحدة، فما فرقه عن سارتر؟
في الحقيقة أن فانون كان يصارع نفسه بقوة، وكان يجد صعوبة في ذلك، وهو ما يتبين حين القراءة التفكيكية للكتاب، فكان الغطاء الماركسي الأعمى يصرفه عن قوة الروح التي تشكلت عبرها، نبع الجذور النهائية للمقاومة الجزائرية، وأن هناك روحاً في إفريقيا السمراء، مختلفة عن بعث البروليتارية الشيوعية، فهي نزعة روحية إيمانية أخلاقية نضالية، ورغم أن فانون حاول ألا يتوقف عندها، وإن نَقل عنه علي شريعتي، إقرارا بها، غير أنهُ كان في تصالح ضميري معها، وغطّاها باسم التقاليد، خشيةً من أن يعلن ذلك باسم البعث الإسلامي روحياً وفكرياً، فيشعر أنهُ ارتد عن ماركسيته ويخذل التحالف اليساري الكبير.
أما سارتر فإن حضور كلماته وكتبه في القارة السمراء، لا يعبر عن هذه المفاصلة القيمية، وخاصة فيما أسفرت عنه حياته الفكرية الأخيرة، وهو ما يُشير إلى أن سارتر رغم علاقته التي حرص عليها مع موسكو، والتي تقول سيمون بفوار إنها كانت لمصالح شخصية له مع عشيقته الروسية، ولم تكن لمبادئ بالضرورة، فهو في هذا الباب أبعد ما يكون عن روح الالتحام الجنوبي الأخيرة، التي خلقت فرانز فانون وفلسفته الثورية.