+ A
A -
مصحوبا بتوفيق الله، وحب والتفاف شعبه، وقوة ورسوخ حضور وطنه الذي يقوده بحكمة وحنكة، اختتم حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى جولة آسيوية، شملت ثلاث دول؛ هي ماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا.
الجولة السامية تحمل الكثير من الرسائل والدلالات المهمة، بالإضافة بالطبع إلى ما فتحته من آفاق جديدة للتعاون وتبادل المصالح والمنافع بين قطر وهذه الدول.
الجولة هي الثانية لأمير البلاد المفدى خلال شهرين، ففي سبتمبر الماضي كانت البداية بجولة أوروبية، زار سموه خلالها كلا من تركيا وألمانيا وفرنسا، وعقد في كل دولة مباحثات مهمة على مستوى القمة مع قادتها، قبل أن يتوجه مباشرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثانية والسبعين، ليتوج الجولة السامية بكلمته التاريخية، من على منبر المنظمة الدولية، تلك الكلمة التي ستظل محفورة في عقل وفكر كل مواطن ومقيم على أرض قطر، بل كل عربي ومسلم في العالم.
بالطبع لست في حاجة إلى أن أذكر أن الجولة الأوروبية كانت الأولى لصاحب السمو منذ ارتكاب جريمة الحصار الجائر ضد قطر، وأن نتائجها وعظمة استقبال القادة الذين التقاهم سموه، كانت صفعة مدوية على وجه أولئك الذين ادعوا عزلة قطر، بينما الواقع والحقيقة الماثلة للعالم أجمع، أنهم هم المعزولون، بل المتوارون عن الأنظار، بشكل غريب ومريب!.
أعود إلى الجولة الآسيوية.. فقد كانت البداية من مملكة ماليزيا الاتحادية، صاحبة التجربة التنموية الفريدة، والتي جعلتها، في طليعة الدول التي تسمى بنمور آسيا، والدولة المسلمة الأبرز، في نادي الدول المتقدمة.
ثمة رابط دقيق ومهم بين قطر وماليزيا، فكلتا الدولتين، إضافة إلى محورية دورهما، وفعاليته، كبلدين مسلمين، فإن اهتمامهما بالإنسان أولا يعد عاملا مشتركا، فقطر، التي حباها الله بنعمة الثروات الطبيعية، ترى أن الإنسان هو ثروتها الحقيقية، وهو ما جعل التنمية البشرية أولى ركائز رؤية قطر «2030».
ورغم أن العلاقات الأخوية بين قطر وماليزيا ممتدة لنحو 43 عاما، إلا أننا يجب أن نتوقف بفخر وفهم عند قول ملك ماليزيا، السلطان محمد الخامس، إن زيارة صاحب السمو التاريخية تمثل منعطفا مهما في العلاقات بين البلدين، وإن لهذه الزيارة عبقها الخاص في تعزيز هذه العلاقات.
ولأن العلاقات بين الدول، كما تبنى على الثقة والمودة والأخوة، تبنى أيضا على المصالح والمنافع المتبادلة، وبما يعود بالخير على شعوبها، فقد كان تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية حاضرا، وبقوة، في زيارة سمو الأمير المفدى لمملكة ماليزيا، فيكفي أن نشير إلى انعقاد المنتدى الاقتصادي القطري - الماليزي، الذي حضره أكثر من 300 من كبار رجال الأعمال والمستثمرين والمسؤولين الحكوميين من البلدين، ورؤساء الشركات والهيئات الاقتصادية والخبراء، وتأكيد السيد داتو سري مصطفى محمد، وزير التجارة الدولية والصناعة بمملكة ماليزيا الاتحادية، أن دولة قطر تعد من أهم المستثمرين في ماليزيا، إضافة إلى الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، التي شملت العديد من المجالات، بين البلدين.
قطر وسنغافورة
دائما ما يردد مدمنو الفشل من المستبدين والمضيعين لمقدرات شعوبهم، وحمقى السياسة والإنسانية، أن قطر دولة صغيرة المساحة، معتبرين ذلك نقيصة وعيبا، فنرد عليهم بأن الدول لا تقاس بحجمها الجغرافي، وكان أول مثال ندعم به ردنا المنطقي، الذي لا يريدون استيعابه، جهلا وحسدا من عند أنفسهم أيضا، هو سنغافورة، التي يقترن اسمها دوما بوصف «المعجزة»، فأنت بصدد دولة لا تتجاوز مساحتها الكلية، 710 كيلومترات مربعة، لكن ناتجها القومي يتجاوز الـ «279» مليار دولار..
دولة كان متوسط دخل الفرد فيها سنوياً 300 دولار فقط، وارتفع إلى 31 ألف دولار سنوياً، بينما دول مترامية الأطراف الجغرافية، متعددة الثروات الطبيعية والبشرية، نحو نصف سكانها تحت خط الفقر، بسبب سوء الإدارة وفساد السلطة!
سنغافورة الصغيرة تحتل المركز الأول عالميا في جودة التعليم، وأيضا قطر ذات المساحة الجغرافية الصغيرة هي الأولى عربيا والرابعة عالميا في نفس المجال، بينما دول مترهلة المساحة، تقبع في ذيل القائمة!
على كل حال.. فإننا لم نكن حين نردد المثال، أو المعجزة السنغافورية، نباهي بغيرنا، وإنما كنّا ندلل على قدرات وطننا الفذة، رغم صغر مساحته الجغرافية، مستدلين بالنموذج السنغافوري، الذي يجمعنا به عدد من القواسم المشتركة.. والحديث عن القواسم المشتركة هذه المرة ليس لنا، وإنما لرئيسة سنغافورة، فخامة السيدة المسلمة حليمة يعقوب، والتي قالت خلال ترحيبها بصاحب السمو أمير البلاد المفدى، أثناء حفل العشاء التكريمي الذي أقامته لسموه، إن قواسم مشتركة كثيرة تجمع كلا من سنغافورة وقطر، بدءا من مسارات التنمية، ووصولا إلى الدور الحيوي للبلدين على المستوى الإقليمي، الذي يبين أن نجاح البلدين لا يكمن في حجمهما. وفي معرض كلمتها أيضا، تحدثت الرئيسة عن خصائص الاقتصاد القطري والاقتصاد السنغافوري باعتبارهما اقتصادين صديقين للأعمال، ويشجعان التجارة الحرة بقوة، منوهة باتفاقية التجارة الحرة بين سنغافورة ودول مجلس التعاون الخليجي، التي وُقِّعت في الدوحة عام 2008.
ولم يفت الرئيسة السنغافورية أن تتحدث عن مونديال «2022»، معربة عن تطلعها الكبير لهذه الفعالية الرياضية في الدوحة، ومعتبرة أنها ستكون دورة تاريخية، على اعتبار أنها الدورة الأولى التي تقام في الشرق الأوسط، كما أعربت فخامتها عن ثقتها بأن استضافة قطر لكأس العالم سيكون نجاحها مدويا، وهي ثقة في محلها للرئيسة، وقطر جاهزة لإبهار العالم من جديد.
لقد شهدت زيارة صاحب السمو لسنغافورة توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين البلدين، وكان لافتا أن تكون اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات، والتي تهدف إلى إيجاد المناخ الاستثماري والظروف المواتية للاستثمارات وتعزيز حمايتها، من أبرز تلك الاتفاقيات، إضافة إلى العديد من أوجه التعاون في مجالات مختلفة.
ختام الجولة
وقد كان ختام الجولة الآسيوية لصاحب السمو، بزيارة سموه إلى إندونيسيا، التي تزامنت مع مرور «41» سنة على العلاقات القطرية مع أكبر دول العالم الإسلامي سكانا.
وكان لافتا أن تتناول المباحثات بين صاحب السمو، والرئيس الإندونيسي جوكو ويديدو، أزمة الحصار الجائر على قطر، وآثاره الإنسانية على الشعب القطري والشعوب الخليجية..
وكعادة قيادتنا الرشيدة في الثبات على الموقف الحق، والحرص الراسخ على الحفاظ على علاقات الأخوة، وانفتاح قطر الدائم على حل أية خلافات عبر الحوار، أكد صاحب السمو مجددا أن «قطر مستعدة دائما للحوار لحل هذه القضايا لأنه لا يوجد رابح، كلنا إخوان، وكلنا خاسرون من هذه الأزمة، ولذلك قطر منفتحة للحوار وفق اتفاقيات تكون ملزمة على كل الأطراف باحترام سيادة الدول»..
طموح قطر وتطلعها لمزيد من التقدم، من أجل صالح شعبها ورفاهيته، نموذج يحتذى، وهدف نبيل يعمل صاحب السمو على تحقيقه، وتدعيمه في كافة الزيارات والجولات التي يقوم بها، ومن أجل هذا الهدف تتواصل الزيارات والجولات التي تلقى أكبر تقدير واحترام من الدول المضيفة؛ تقدير يليق بقيادة قطر الحكيمة، وبجهودها ومحورية دورها في المنطقة والعالم.
إن جولة صاحب السمو، ولقاءات القمة التي عقدها مع قادة الدول الآسيوية الثلاث، هي درس سياسي ودبلوماسي لدول الحصار، التي تصورت أن إجراءاتها وادعاءاتها الكاذبة، ستتسبب في عزل قطر عن محيطها العالمي، وهو تصور موتور، لا يصدر إلا عن جهل، فقيادتنا الرشيدة تحظى باحترام وثقة عالميين، ترسخا على مدار عقود من السياسة المنفتحة، والإسهام القطري البارز في إرساء الأمن والسلم العالميين، إضافة إلى الشراكات الاقتصادية الشفافة والمتوازنة، التي تهدف إلى خير الشعوب ورفاهها.
كما مثلت الجولة الآسيوية، أيضا، صفعة جديدة على وجوه الحاقدين، تضاف إلى الصفعات الـ «155» التي دوت على الوجوه الكالحة، حين حازت قطر على ثقة هذا العدد من الدول، لتعيد الجمعية العامة للأمم المتحدة انتخابها في مجلس حقوق الإنسان، للمرة الرابعة، وهي شهادة جديدة على دور بلادنا في تعزيز حقوق الإنسان، في الوقت الذي تواصل فيه المنظمات الدولية الموثوقة، فضح دول الحصار وانتهاكاتها وجرائمها، في حق الإنسانية، داخل بلادها أو خارجها، ما وضعها على اللائحة السوداء للأمم المتحدة..
دروس وعبر
هذه الجولة أفرزت لنا العديد من الدروس والعبر تستحق التوقف عندها، ونذكر منها موقف رئيسة سنغافورة، فخامة السيدة حليمة يعقوب، في أنها تتطلع لمونديال تاريخي في قطر 2022، وأنها تثق تماما في قدرات الدوحة على ذلك، في نفس الوقت الذي يسعى فيه الجار ودول الحصار والانكسار إلى تقويض هذا الحدث، والعمل على زعزعته منذ اليوم الأول لإعلان الفوز بتنظيمه لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط.. ولم نجد سببا مقنعا لذلك إلا أن يكون هذا النجاح المذهل قد أشعل في قلوبهم نار الغيرة، وسبّب لهم ارتفاعا في الضغط وانتفاخات في القولون!
ومن الدروس التي تستحق أن تروى لدول الحصار التي دأبت على أن «تشحت» الدعم من دول ومنظمات دون أن تستفيد من النماذج العالمية الفريدة من نوعها، والتي نجحت في تحويل دولها من خط الفقر إلى العيش الكريم والاقتصاد المزدهر المستقر.. سنغافورة «أعجوبة» هذا التحول، والمثال الحي لكيفية التغلب على الظروف الجغرافية والاجتماعية، ومواكبة التطور، وركوب موجة التنمية..
وهي بالمناسبة تشبه في حجمها مملكة البحرين «جزيرة الريتويت».. لكن شتان بين من كان عمله ونتائجه أشبه بـ «معجزة»، وبين من اكتفى بطلب التعويضات والمنح دون تطوير واضح للجانب الاقتصادي أو الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وذلك بإقحام نفسه في خلافات وتصريحات أكبر منه، حتى أصبح أداؤه «مطنزة» للمتابعين!
وفي المثال الثاني نرى ماليزيا، التي كانت تكابد الفقر وقلة الدخل حتى وقت قريب، ثم تحولت بجهود رجل فاضل وفاهم، استطاع أن يضاعف دخل المواطن سبع مرات في فترة قصيرة!
نعم، فمهاتير محمد الذي كان يبيع فطائر الموز في فترة الاحتلال الياباني لبلاده لتوفير حق الدراسة، استلم رئاسة الوزراء لأكثر من ثلاثين سنة، لينقل ماليزيا من دولة فقيرة إلى أحد أكبر النمور الآسيوية، لأنه ببساطة شجّع التعليم وحارب الفساد ودعم القانون.. عبر رؤية واضحة كانت تحتاج «كبسة زر» من رأس الهرم لتشرع الحكومة في تنفيذها وتجني ثمارها بعد سنوات وعقود من العمل المضني في المقابل نشاهد وضع الشقيقة الكبرى مصر، ونحزن على حالة الانحسار والانكسار والانهيار الذي يضرب مختلف قطاعاتها، وينشر الفقر والجهل بين جميع فئاتها!
فالرئيس الأسبق مبارك، الذي حكم بنفس المدة تقريبا، كانت معه مصر في انحدار اقتصادي رغم الاستقرار السياسي.. والهدوء الأمني..
حتى جاء السيسي وعوّم الجنيه ليغرق الناس في بحر الغلاء.. معتمدا على خطة الاقتراض وطلب الرز من المانحين، دون رؤية أو خطة للاستفادة من إمكانات مصر العظيمة.. قامة وقيمة!!
وحتى السعودية.. المملكة النفطية، هي الأخرى تترنح رغم الموارد الضخمة التي تمتلكها، لكنها تفرغت للمغامرات السياسية الفاشلة والحروب الخاسرة، دون أن تولي الاقتصاد والتعليم ما يستحقان.. فأصبحت تحت ضغط الشعب المضغوط.. والذي يرتفع معه معيار الفقر والقهر نتيجة العبث والمراهقة التي تعصف بهوية المملكة واستقرارها!
لو أن دول الحصار استفادت من تجارب النمور الآسيوية لكانت شعوبها اليوم هي من تحميها، ولكان وزنها السياسي والاقتصادي في العالم يجعلها تتحكم في مسار القرار.. لكنها، بعد تفكير عميق، أو بالأحرى سبات عميق، رأت النجاح والانتصار في أن تقمع شعوبها وتفرض على قطر الحصار..!
لكن الواقع يقول: قطر هي من تحاصرهم بنجاحاتها وتهزمهم بإنجازاتها.. وتحرجهم بأخلاقها.
بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
الجولة السامية تحمل الكثير من الرسائل والدلالات المهمة، بالإضافة بالطبع إلى ما فتحته من آفاق جديدة للتعاون وتبادل المصالح والمنافع بين قطر وهذه الدول.
الجولة هي الثانية لأمير البلاد المفدى خلال شهرين، ففي سبتمبر الماضي كانت البداية بجولة أوروبية، زار سموه خلالها كلا من تركيا وألمانيا وفرنسا، وعقد في كل دولة مباحثات مهمة على مستوى القمة مع قادتها، قبل أن يتوجه مباشرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الثانية والسبعين، ليتوج الجولة السامية بكلمته التاريخية، من على منبر المنظمة الدولية، تلك الكلمة التي ستظل محفورة في عقل وفكر كل مواطن ومقيم على أرض قطر، بل كل عربي ومسلم في العالم.
بالطبع لست في حاجة إلى أن أذكر أن الجولة الأوروبية كانت الأولى لصاحب السمو منذ ارتكاب جريمة الحصار الجائر ضد قطر، وأن نتائجها وعظمة استقبال القادة الذين التقاهم سموه، كانت صفعة مدوية على وجه أولئك الذين ادعوا عزلة قطر، بينما الواقع والحقيقة الماثلة للعالم أجمع، أنهم هم المعزولون، بل المتوارون عن الأنظار، بشكل غريب ومريب!.
أعود إلى الجولة الآسيوية.. فقد كانت البداية من مملكة ماليزيا الاتحادية، صاحبة التجربة التنموية الفريدة، والتي جعلتها، في طليعة الدول التي تسمى بنمور آسيا، والدولة المسلمة الأبرز، في نادي الدول المتقدمة.
ثمة رابط دقيق ومهم بين قطر وماليزيا، فكلتا الدولتين، إضافة إلى محورية دورهما، وفعاليته، كبلدين مسلمين، فإن اهتمامهما بالإنسان أولا يعد عاملا مشتركا، فقطر، التي حباها الله بنعمة الثروات الطبيعية، ترى أن الإنسان هو ثروتها الحقيقية، وهو ما جعل التنمية البشرية أولى ركائز رؤية قطر «2030».
ورغم أن العلاقات الأخوية بين قطر وماليزيا ممتدة لنحو 43 عاما، إلا أننا يجب أن نتوقف بفخر وفهم عند قول ملك ماليزيا، السلطان محمد الخامس، إن زيارة صاحب السمو التاريخية تمثل منعطفا مهما في العلاقات بين البلدين، وإن لهذه الزيارة عبقها الخاص في تعزيز هذه العلاقات.
ولأن العلاقات بين الدول، كما تبنى على الثقة والمودة والأخوة، تبنى أيضا على المصالح والمنافع المتبادلة، وبما يعود بالخير على شعوبها، فقد كان تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية حاضرا، وبقوة، في زيارة سمو الأمير المفدى لمملكة ماليزيا، فيكفي أن نشير إلى انعقاد المنتدى الاقتصادي القطري - الماليزي، الذي حضره أكثر من 300 من كبار رجال الأعمال والمستثمرين والمسؤولين الحكوميين من البلدين، ورؤساء الشركات والهيئات الاقتصادية والخبراء، وتأكيد السيد داتو سري مصطفى محمد، وزير التجارة الدولية والصناعة بمملكة ماليزيا الاتحادية، أن دولة قطر تعد من أهم المستثمرين في ماليزيا، إضافة إلى الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، التي شملت العديد من المجالات، بين البلدين.
قطر وسنغافورة
دائما ما يردد مدمنو الفشل من المستبدين والمضيعين لمقدرات شعوبهم، وحمقى السياسة والإنسانية، أن قطر دولة صغيرة المساحة، معتبرين ذلك نقيصة وعيبا، فنرد عليهم بأن الدول لا تقاس بحجمها الجغرافي، وكان أول مثال ندعم به ردنا المنطقي، الذي لا يريدون استيعابه، جهلا وحسدا من عند أنفسهم أيضا، هو سنغافورة، التي يقترن اسمها دوما بوصف «المعجزة»، فأنت بصدد دولة لا تتجاوز مساحتها الكلية، 710 كيلومترات مربعة، لكن ناتجها القومي يتجاوز الـ «279» مليار دولار..
دولة كان متوسط دخل الفرد فيها سنوياً 300 دولار فقط، وارتفع إلى 31 ألف دولار سنوياً، بينما دول مترامية الأطراف الجغرافية، متعددة الثروات الطبيعية والبشرية، نحو نصف سكانها تحت خط الفقر، بسبب سوء الإدارة وفساد السلطة!
سنغافورة الصغيرة تحتل المركز الأول عالميا في جودة التعليم، وأيضا قطر ذات المساحة الجغرافية الصغيرة هي الأولى عربيا والرابعة عالميا في نفس المجال، بينما دول مترهلة المساحة، تقبع في ذيل القائمة!
على كل حال.. فإننا لم نكن حين نردد المثال، أو المعجزة السنغافورية، نباهي بغيرنا، وإنما كنّا ندلل على قدرات وطننا الفذة، رغم صغر مساحته الجغرافية، مستدلين بالنموذج السنغافوري، الذي يجمعنا به عدد من القواسم المشتركة.. والحديث عن القواسم المشتركة هذه المرة ليس لنا، وإنما لرئيسة سنغافورة، فخامة السيدة المسلمة حليمة يعقوب، والتي قالت خلال ترحيبها بصاحب السمو أمير البلاد المفدى، أثناء حفل العشاء التكريمي الذي أقامته لسموه، إن قواسم مشتركة كثيرة تجمع كلا من سنغافورة وقطر، بدءا من مسارات التنمية، ووصولا إلى الدور الحيوي للبلدين على المستوى الإقليمي، الذي يبين أن نجاح البلدين لا يكمن في حجمهما. وفي معرض كلمتها أيضا، تحدثت الرئيسة عن خصائص الاقتصاد القطري والاقتصاد السنغافوري باعتبارهما اقتصادين صديقين للأعمال، ويشجعان التجارة الحرة بقوة، منوهة باتفاقية التجارة الحرة بين سنغافورة ودول مجلس التعاون الخليجي، التي وُقِّعت في الدوحة عام 2008.
ولم يفت الرئيسة السنغافورية أن تتحدث عن مونديال «2022»، معربة عن تطلعها الكبير لهذه الفعالية الرياضية في الدوحة، ومعتبرة أنها ستكون دورة تاريخية، على اعتبار أنها الدورة الأولى التي تقام في الشرق الأوسط، كما أعربت فخامتها عن ثقتها بأن استضافة قطر لكأس العالم سيكون نجاحها مدويا، وهي ثقة في محلها للرئيسة، وقطر جاهزة لإبهار العالم من جديد.
لقد شهدت زيارة صاحب السمو لسنغافورة توقيع العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بين البلدين، وكان لافتا أن تكون اتفاقية تشجيع وحماية الاستثمارات، والتي تهدف إلى إيجاد المناخ الاستثماري والظروف المواتية للاستثمارات وتعزيز حمايتها، من أبرز تلك الاتفاقيات، إضافة إلى العديد من أوجه التعاون في مجالات مختلفة.
ختام الجولة
وقد كان ختام الجولة الآسيوية لصاحب السمو، بزيارة سموه إلى إندونيسيا، التي تزامنت مع مرور «41» سنة على العلاقات القطرية مع أكبر دول العالم الإسلامي سكانا.
وكان لافتا أن تتناول المباحثات بين صاحب السمو، والرئيس الإندونيسي جوكو ويديدو، أزمة الحصار الجائر على قطر، وآثاره الإنسانية على الشعب القطري والشعوب الخليجية..
وكعادة قيادتنا الرشيدة في الثبات على الموقف الحق، والحرص الراسخ على الحفاظ على علاقات الأخوة، وانفتاح قطر الدائم على حل أية خلافات عبر الحوار، أكد صاحب السمو مجددا أن «قطر مستعدة دائما للحوار لحل هذه القضايا لأنه لا يوجد رابح، كلنا إخوان، وكلنا خاسرون من هذه الأزمة، ولذلك قطر منفتحة للحوار وفق اتفاقيات تكون ملزمة على كل الأطراف باحترام سيادة الدول»..
طموح قطر وتطلعها لمزيد من التقدم، من أجل صالح شعبها ورفاهيته، نموذج يحتذى، وهدف نبيل يعمل صاحب السمو على تحقيقه، وتدعيمه في كافة الزيارات والجولات التي يقوم بها، ومن أجل هذا الهدف تتواصل الزيارات والجولات التي تلقى أكبر تقدير واحترام من الدول المضيفة؛ تقدير يليق بقيادة قطر الحكيمة، وبجهودها ومحورية دورها في المنطقة والعالم.
إن جولة صاحب السمو، ولقاءات القمة التي عقدها مع قادة الدول الآسيوية الثلاث، هي درس سياسي ودبلوماسي لدول الحصار، التي تصورت أن إجراءاتها وادعاءاتها الكاذبة، ستتسبب في عزل قطر عن محيطها العالمي، وهو تصور موتور، لا يصدر إلا عن جهل، فقيادتنا الرشيدة تحظى باحترام وثقة عالميين، ترسخا على مدار عقود من السياسة المنفتحة، والإسهام القطري البارز في إرساء الأمن والسلم العالميين، إضافة إلى الشراكات الاقتصادية الشفافة والمتوازنة، التي تهدف إلى خير الشعوب ورفاهها.
كما مثلت الجولة الآسيوية، أيضا، صفعة جديدة على وجوه الحاقدين، تضاف إلى الصفعات الـ «155» التي دوت على الوجوه الكالحة، حين حازت قطر على ثقة هذا العدد من الدول، لتعيد الجمعية العامة للأمم المتحدة انتخابها في مجلس حقوق الإنسان، للمرة الرابعة، وهي شهادة جديدة على دور بلادنا في تعزيز حقوق الإنسان، في الوقت الذي تواصل فيه المنظمات الدولية الموثوقة، فضح دول الحصار وانتهاكاتها وجرائمها، في حق الإنسانية، داخل بلادها أو خارجها، ما وضعها على اللائحة السوداء للأمم المتحدة..
دروس وعبر
هذه الجولة أفرزت لنا العديد من الدروس والعبر تستحق التوقف عندها، ونذكر منها موقف رئيسة سنغافورة، فخامة السيدة حليمة يعقوب، في أنها تتطلع لمونديال تاريخي في قطر 2022، وأنها تثق تماما في قدرات الدوحة على ذلك، في نفس الوقت الذي يسعى فيه الجار ودول الحصار والانكسار إلى تقويض هذا الحدث، والعمل على زعزعته منذ اليوم الأول لإعلان الفوز بتنظيمه لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط.. ولم نجد سببا مقنعا لذلك إلا أن يكون هذا النجاح المذهل قد أشعل في قلوبهم نار الغيرة، وسبّب لهم ارتفاعا في الضغط وانتفاخات في القولون!
ومن الدروس التي تستحق أن تروى لدول الحصار التي دأبت على أن «تشحت» الدعم من دول ومنظمات دون أن تستفيد من النماذج العالمية الفريدة من نوعها، والتي نجحت في تحويل دولها من خط الفقر إلى العيش الكريم والاقتصاد المزدهر المستقر.. سنغافورة «أعجوبة» هذا التحول، والمثال الحي لكيفية التغلب على الظروف الجغرافية والاجتماعية، ومواكبة التطور، وركوب موجة التنمية..
وهي بالمناسبة تشبه في حجمها مملكة البحرين «جزيرة الريتويت».. لكن شتان بين من كان عمله ونتائجه أشبه بـ «معجزة»، وبين من اكتفى بطلب التعويضات والمنح دون تطوير واضح للجانب الاقتصادي أو الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وذلك بإقحام نفسه في خلافات وتصريحات أكبر منه، حتى أصبح أداؤه «مطنزة» للمتابعين!
وفي المثال الثاني نرى ماليزيا، التي كانت تكابد الفقر وقلة الدخل حتى وقت قريب، ثم تحولت بجهود رجل فاضل وفاهم، استطاع أن يضاعف دخل المواطن سبع مرات في فترة قصيرة!
نعم، فمهاتير محمد الذي كان يبيع فطائر الموز في فترة الاحتلال الياباني لبلاده لتوفير حق الدراسة، استلم رئاسة الوزراء لأكثر من ثلاثين سنة، لينقل ماليزيا من دولة فقيرة إلى أحد أكبر النمور الآسيوية، لأنه ببساطة شجّع التعليم وحارب الفساد ودعم القانون.. عبر رؤية واضحة كانت تحتاج «كبسة زر» من رأس الهرم لتشرع الحكومة في تنفيذها وتجني ثمارها بعد سنوات وعقود من العمل المضني في المقابل نشاهد وضع الشقيقة الكبرى مصر، ونحزن على حالة الانحسار والانكسار والانهيار الذي يضرب مختلف قطاعاتها، وينشر الفقر والجهل بين جميع فئاتها!
فالرئيس الأسبق مبارك، الذي حكم بنفس المدة تقريبا، كانت معه مصر في انحدار اقتصادي رغم الاستقرار السياسي.. والهدوء الأمني..
حتى جاء السيسي وعوّم الجنيه ليغرق الناس في بحر الغلاء.. معتمدا على خطة الاقتراض وطلب الرز من المانحين، دون رؤية أو خطة للاستفادة من إمكانات مصر العظيمة.. قامة وقيمة!!
وحتى السعودية.. المملكة النفطية، هي الأخرى تترنح رغم الموارد الضخمة التي تمتلكها، لكنها تفرغت للمغامرات السياسية الفاشلة والحروب الخاسرة، دون أن تولي الاقتصاد والتعليم ما يستحقان.. فأصبحت تحت ضغط الشعب المضغوط.. والذي يرتفع معه معيار الفقر والقهر نتيجة العبث والمراهقة التي تعصف بهوية المملكة واستقرارها!
لو أن دول الحصار استفادت من تجارب النمور الآسيوية لكانت شعوبها اليوم هي من تحميها، ولكان وزنها السياسي والاقتصادي في العالم يجعلها تتحكم في مسار القرار.. لكنها، بعد تفكير عميق، أو بالأحرى سبات عميق، رأت النجاح والانتصار في أن تقمع شعوبها وتفرض على قطر الحصار..!
لكن الواقع يقول: قطر هي من تحاصرهم بنجاحاتها وتهزمهم بإنجازاتها.. وتحرجهم بأخلاقها.
بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول