+ A
A -
د. أحمد أبو الهيجاء باحث في علم الاجتماع السياسي

يمكن الحديث عن اتفاق أوسلو وما نتج عنه من تحولات في ذكراه الـ30 من جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة، كلها هامة، لكن ما ارتبط منها بصناعة الوعي لا يقل خطورة. أحد أشكال صناعة الوعي التي ارتبطت بمرحلة أوسلو هو تعميق سردية اليأس والتبرير مقابل قتل الأمل الذي كان يشكل الدافع الأساسي للمقاومة بكافة أشكالها في حياة الفلسطينيين في الداخل قبل مرحلة أوسلو.

إن من أهم الفوارق بين فلسطينيي الداخل والعائدين من الخارج وَفق اتفاق أوسلو عام 1993 هو أن الفلسطيني في الداخل كان يعيش على الأمل في كل جزئيات حياته، في حين من قدم من الخارج بنى مشروعه على سردية اليأس والتبرير. ومن هنا بدأ التناقض بين الداخل والخارج. وفي وقت يمكن لثقافة الأمل أن تبني أمة ومجتمعًا حرًا، فإن ثقافة اليأس لا تولد إلا متوالية العجز والتبرير.

كانت إحدى الوظائف الأساسية لنهج أوسلو تجويف الأمل الذي انطلقت منه الانتفاضة الفلسطينية الأولى، والعمل على صناعة وهم الأمل بديلا. برز الدور الوظيفي بعد ذلك في هندسة المجتمع وإعادة تشكيل كل القوى فيه، لتصبح جزءا من حالة الانكسار والخنوع. وبرزت أدوات السلطة الأيديولوجية لمواجهة أي فكر آخر يتعارض مع هذه المرحلة، وقتل الأمل الذي اعتبره محمود درويش «قوة الضعيف المستعصية على المقاومة».

إن استراتيجية قتل الأمل كانت فعالة في المراحل الحاسمة التي تلت أوسلو. تم استخدام المسميات الوطنية بغير مكانها من أجل تعظيم الشعور باليأس والعزوف عن الرغبة في التحرير، وإيجاد حالة من الانكفاء الذاتي.. إن تجويف الأمل هو الذي جعل أحد تجليات تطبيق اتفاق أوسلو هو محاصرة أي مشروع وليد مبني على الأمل، حتى لو كان بسيطا ومتواضعا، لأن مزيدا من الأمل سيؤدي إلى تراكم الفعل كما ونوعا نحو التغيير والتحرير. يعتبر الماوردي في كتابه «الأحكام السلطانية» أن صلاح الدنيا يتلخص في 6 أشياء، هي: الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن العام، والخصب الدائم، والأمل الفسيح.

تاريخيا، اعتمدت قوة الداخل الفلسطيني قبل قيام السلطة الفلسطينية على الأمل. دائما ما كان لدى فلسطينيي الداخل أمل يعيشون عليه، في حين اصطدم ذلك الأمل بفكر مرتبك جاء مع الفلسطينيين القادمين من الخارج مع تشكل السلطة الفلسطينية، إذ كانوا مكتئبين ومسكونين باليأس.

برز بوضوح العمل المنظم على تجويف الأمل كإحدى أدوات أوسلو لمواجهة الأمل لدى فلسطينيي الداخل. فتم اصطناع ما يُطلق عليه «وهم الأمل» لإشغال الناس وللتغطية على عوار اتفاق أوسلو. وصفه الباحث في علاقات المجتمع والجيش الإسرائيلي، يجيل ليفي، بأنه «اتفاق أمني بهوامش سياسية وليس اتفاقا سياسيا بهوامش أمنية»، وعرّفه بأنه «إعادة هيكلة للحكم العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية وتطوير أدوات ووسائل التحكم والسيطرة على الفلسطينيين». جاء تسويق الوهم بديلا للأمل من خلال حالات إشغال المجتمع بالأمل المزيف أو وهم الأمل، مثل التفاعل المبالغ فيه مع أحداث فنية، كما جرى في التعاطي مع حالة الفنان محمد عساف في برنامج «أراب آيدل»، أو حتى التوجه إلى الأمم المتحدة للحصول على عضوية دولة مراقب.

تأتي وظيفة نهج أوسلو أيضا في قتل الأمل، وذلك ضمن المعركة الرامية للسيطرة على الوعي. استحدث الاحتلال، بعد مرحلة أوسلو، دوائر متخصصة بهدف تغيير الصورة الذهنية الراسخة والتأثير في اليقين، والمواقف، والعواطف. هذه الدوائر كانت تهدف إلى التحكم في تصرفات المجتمع وتقويض نسيجه الاجتماعي. كان الهدف هو تحويل المجتمع إلى مجتمع ممزق، مفكك، ضعيف، وغير محصن، وذلك ليصبح فاقدا للمناعة الذاتية ويشعر بالعجز بشكل دائم، مما يسهل على الإسرائيليين السيطرة عليه وإدارة الصراع معه دون خسائر تذكر.

استُخدمت وسائل كثيرة لبناء ثقافة اليأس وقتل الأمل طيلة المرحلة السابقة، من قبيل قتل النموذج والقدوات في المجتمع الفلسطيني وتشويهها، وتفاخر أحد المسؤولين ذات مرة في لقاء عام بوجود جهاز خاص لتشويه الخصوم، وباللغة الدارجة قال: «حرقهم»، التشكيك في كل شيء، التضليل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ونشر خطاب التعصب والكراهية والجهوية والمناطقية. للأسف، تورط الجميع في هذا النوع من الخطاب، وكان الأجدر بالمعارضة أن يكون لها خطاب مختلف وأكثر وعيا، لكن ذلك لم يحدث بالشكل المأمول.

تم ترسيخ فكر المؤامرة حتى بلغ الهوس، لدرجة يمكن تسميتها بـ«أيديولوجية المؤامرة» لتبرير العجز واليأس. ففكر المؤامرة أصبح رديفا أساسيا لليأس والعجز، فكل شيء جميل يعزى للمؤامرة. ووفقا لهذا التصنيف الذي تولد مع مرحلة أوسلو، لم يعد يوجد في المجتمع الفلسطيني -من وجهة نظر أصحاب هذا الخطاب- فصيل سياسي أو مؤسسة مجتمعية أو معارض أو ناقد وحتى حراكات وإضرابات مطلبية إلا تم تصنيفهم على أنهم «أصحاب الأجندات الخفية»، أو مرتبطون بجهة خارجية، أو عملاء لهذه الجهة أو تلك، مصحوبا بخطاب استعلائي «من أنت؟… أنا البلد… أنا صاحب القرار…» حتى منفذو عمليات فدائية استشهدوا لم يسلموا من هذا التوصيف. هذا أحد إفرازات أوسلو المستمرة التي أضرت ليس فقط بالنسيج الفلسطيني الداخلي، ولكن أيضا بصورة الفلسطيني في الخارج.

ما يجدر بنا قوله هو أن الفجوة في ثنائية الأمل واليأس لم تعد بين فريقي الداخل والخارج، بل أصبحت في الأعوام الأخيرة بين جيل جديد من الشباب والجيل القديم، ووفقا لصيرورة الحياة، فإن حتمية ولادة الجديد مؤكدة، وهذا ما يتجلى في عنفوان ومقاومة الجيل الشاب الجديد في القضية الفلسطينية، الذي يظهر أنه تحرر تماما من كل هذه الثنائيات التي فرضتها مرحلة أوسلو.

copy short url   نسخ
19/09/2023
5