روى «أبو محمد اليافعي» في كتابه «مرآة الجنان»، أن الخليفة المهديّ قال «للهيثم بن عدي الطائي» راوية الأخبار الشهير: ويحكَ يا هيثم، إن الناس يُخبرون عن الأعراب سخاءً ولؤماً، وكرماً وسماحاً، وقد اختلفوا في ذلك، فما عندكَ منه؟!
فقال له: على الخبير سقطْتَ يا أمير المؤمنين، خرجتُ يوماً في الصحراء، فلما أمسيتُ رأيتُ خيمةً، فإذا بها امرأة، قالت: من أنتَ؟
قلتُ: ضيف!
فقالتْ: وما يصنع الضيفُ عندنا، إن الصحراء واسعة!
وقامت إلى خبزٍ لها، وجعلتْ تأكلُ وحدها!
ثم ما لبثتُ يسيراً حتى أقبل زوجها، فقال: من الرجل؟
قلتُ: ضيف.
فقال: مرحباً بالضيف!
ثم نزل عن ناقته، وحلبَ لي، وسقاني، وقال: ما أراها أطعمتكَ شيئاً!
فقلتُ: لا.
فأقبل عليها وقال: يا عدوة نفسك، تأكلين وتتركين ضيفكِ!
فقالت: أتريدُ أن أعطيه طعامي؟!
فغضبَ، ولطمها، وخرج إلى الناقة وذبحها، وجعل يشوي منها ويطعمني، وفي الصباح زوّدني من ذلك اللحم ومضيتُ!
ثم صرتُ في المساء عند خيمة، فنزلتُ بها فإذا امرأة هناك، فقالت: من الرجل؟
قلتُ: ضيف.
قالت: مرحباً بالضيف، ثم قامتْ إلى طعام عندها ووضعته أمامي.
فجاء زوجها، فقال: من الرجل؟
قلتُ: ضيف
فقال: ما يفعل الضيف عندنا، ثم أقبل على زوجته وقال: ويحكِ تعطينه طعامي!
فقالت له: أتريدُ أن تأكل دون ضيفك، إنك رجل سوء!
فغضبَ منها، ولطمها، فجعلتُ أضحك، فقال: ما يضحكك؟
فقصصتُ عليه الخبر، أول أمري وآخره.
فقال: تلك المرأة أختي، وهذه أخت ذلك الرجل!
نعم قد تتميز عائلة بأكملها بخُلقٍ ما، وقد يكون لشعب كامل سِمةٌ ما، وقد كانتْ قبيلة عُذرة أرقُّ العربِ أفئدةً، وكان الرّجلُ منهم طريحَ فراشه وما به من مرضٍ غير العِشقِ! وقد شَهدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لنساءِ قريشٍ بالحنان، وحُسْنِ التَّدبير، ومراعاة مشاعر أزواجهنَّ، فقال بأبي هو وأمي: خيرُ نساءٍ رَكِبْنَ الإبِلَ نساءُ قريشٍ، أرْعاهُ على زوجٍ في ذاتِ يَدِه، وأحناهُ علَى ولَدٍ في صِغَرِهِ!
ولكن يبقى الأصل أن من صلب المؤمن يخرجُ الكافر، ومن صلب الكافر يخرج المؤمن، وقد يأتي الابنُ حليماً والأبُ غضوب، وقد تكون البنتُ رزينة والأم سيئة التدبير، وقد يكون بين أخٍ وأخٍ مقدار ما بين السماء والأرض من المسافة!
من أمثال جدتي رحمها الله قولها: البطنُ بستان!
وهي تعني به أن الأولاد يخرجون من بطنٍ واحدٍ، ولكل منهم طبعٌ وخُلُق، حتى أن المرء منا ليعجب أحياناً حين يعرف أن هذا أخو ذاك! وأجمل من قول جدتي وأحكم، قول ربنا تعالى عن المزروعات «يُسقى بماءٍ واحدٍ ونُفضِّل بعضها على بعضٍ في الأُكل»!
وكذلك النَّاس!