اندلعت معركة وجدانية وفكرية أخرى، على هامش انهيارات الربيع العربي، أكانت مسؤولية السقوط على من يناهضون هذا الربيع، أو من حفر لها من خلال صداقته، أو عبر القوى التي شاركت في بعثه، فالخلاصة واحدة، وهي أن هذا الانهيار لم يكن فقط في بناء الدولة، ولا في المآل الدموي المروع والمفجع، ولا في الهجرات وأمور المعيشة ولا في الشتات، وكل هذه مآس كبرى وفواجع لا حدود لآلامها الممتدة حتى اليوم.

ولكن المعركة الوجدانية كانت في تجريف معاني الإيمان الديني، والتسليم التعبدي لله الخالق المدبر، والأخلاق والسكينة الروحية، التي كانت غذاء المجتمعات في الشرق، رغم أن سؤال الدين نفسه قد استُثمر من خطاب الجهل والتشدد، والتوظيفات السياسية المتضاربة، وتزامن مع هذا الجرف الكبير الذي تساقط سوره، بصعود قوة نفوذ إعلامية وثقافية واقتصادية غربية وعربية، سخّرَت موسم الانهيار العربي لسوق ضخم لأفكارها، فتصاعدت موجات الإلحاد والشكوك الفكرية، من خلق العالم ولماذا خُلقنا، وأين يقف سؤال الشر في هذا الكون؟

وكان جزء من إرث هذا الارتجاج الضخم، الذي لا يزال تعيشه حشود ليست قليلة من شبابنا العربي، هو اعتماد خطاب الدين والوعظ، على القوة السياسية في هذا البلد أو ذاك، وهناك خلطٌ لا يجوز في هذه المسألة، فكون منظومة القوانين والقواعد التشريعية، للمنابر الدينية والفكرية والثقافية لدى الدولة، لا يعني ذلك بالضرورة رفض كل ما قدم عبرها.

ولا ملاومة من استثمرها، إنما المحاسبة والمكاشفة، هي في ذات المادة التي تقدم أكانت فكرة مغالية متشددة، سمحت لها تلك العهود قبل أن تتغير الحسابات مع فكر الصحوة الدينية وسلوكها، أو كانت ضمن برنامج الإسناد لسياسة الحاكم الظالمة أو المتجاوزة لحقوق الناس، في هذا القطر أو ذاك.

وهناك نسبية قياس ضرورية، في تفصيل المشروعية لمنبر الشيخ أو خطاب المثقف تراعي، مساحة الواقع وحاجة المجتمع وضميره لخطاب الإسلام الروحي والفقهي وبلاغه الفكري، هذا الواقع تضخمت أزمته بشدة وخاصة بعد تغييب منابر دعوية عديدة، ومؤسسات وعظية، واجهت المجتمعات عندها أعاصير ضخمة لثقافة الإلحاد والإباحية والعدمية المطلقة، وانحطت اخلاق الناس تحت جاهلية العصبيات الاجتماعية، وكأنما لم يبعث بين ظهراني العرب نبي يخرجهم من الظلمات إلى النور، صلى الله عليه وسلم.

وكلما انهار مشهد زاد التحدي، وصولاً إلى انهيار التجربة التركية الحديثة أمام الشباب العربي، كل ذلك ارتد خلال 11 عاماً على وجدان الشباب، فمن أين لهم ومن أين للجمهور العربي ذلك الركن الذي يؤوون إليه لسماع خطاب ربهم، وعلة الأحكام وقصة الإنسان في سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم، كيف يسمعون الرد على تلك الرياح العاتية التي تشكك في أصل الدين ورابطة الإيمان، وأولويات التعليم الاولي لأجيالهم، كل ذلك لا يمكن أن يتحقق دون قوانين ومرجعية الدولة.

فلذلك آمنتُ من زمن بأن تجنب السياسة، لبعض العلماء والمربين والمفكرين ضرورة لمدافعة خطاب العدمية المهلك، وغابات التشكك المفزعة للأجيال، ولكن براءة هذا العالم أو الداعية أو حتى المثقف غير الإسلامي، هو في سلامة الأبرياء من لسانه وعدم تحريضه على حقوق الشعب، أما علاقته بالدولة والمؤسسات الرسمية، فهي حقه ما لم يظلم خطابه.

هذه القواعد ذكرناها بالعموم لكل الوطن العربي، والشيخ الكملي يغطي اليوم فراغاَ ضخماً، لا يلزم منه أن يَلُّمَّ بكل مسائل المدارات الحقوقية ولا الحِجاج الفلسفي، في صراع الحضارات الصاخب، فالناس بحاجة ماسة إلى مباشرة الاستماع إلى خطاب التشريع الإسلامي، بصورة مبسطة وعميقة في ذات الوقت، وبصاحب بلاغة واتزان وانفتاح منضبط، والشيخ الكملي وفق في ذلك كثيراً، سدد الله سعيه ونفع به.

وكون أن طبيعة الحُكم الملكي في المغرب تكرس حول فكرة إسلامية، فتعلق بها المغاربة، فهذا ساعد على نشاط وانتشار حركة العلم والفكر، وهناك من سعى لتغطية ذلك الفراغ الكبير، في التشريع السياسي وحقوق الأمة المغربية، كالشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله، وهناك مدارس إسلامية مغربية عدة، ومنها صدارة طه عبد الرحمن في مضمار الفلسفة الأخلاقية الإسلامية عالمياً.

كل ذلك يؤكد على أن طبيعة الإسلام تحتاج تنوعاً، وإن بقي ذلك الفراغ الضخم، في تحقيق التشريع الدستوري والحقوقي للعدالة الاجتماعية للرؤية الكونية الإسلامية، التي عبرها يخرج حاضر العالم الإسلامي من أزمته إلى نهضة للإنسان والعمران، ولكن قواعد هذه النهضة لا تستغني عمن يُبقون روح الضمير الإيماني مشتعلة في روح الناس، تقيهم من زلازل الأفكار وقسوة الرياح، لتسكن قلوبهم مع الكملي وأمثاله.