يُقصَدُ بالصور الذهنية أو النمطيَّة؛ النتائج النهائيَّة للانطباعات والعواطف والاتجاهات التي تتشكّل لدى الأفراد والجماعات إزاء شخص أو شعب، أو جنس، أو مؤسسة، أو دين بعينة، أو أي شيءٍ آخر يُمكن أن يكون لهُ تأثيرٌ على حياة الإنسان. وتتكوّن هذه الانطباعات بشكلٍ أساسي مما تقدِمُه وسائل الإعلام التقليدية والجديدة من مواد صحيحة أو مُتلاعَب بها ضمن مختلف المضامين الإعلامية المعروضة التي تأخُذ شكل التكرار والديمومة وتبسيط المعلومة.
فحينَ تنشُر أي وسيلة من وسائل الإعلام خبرًا عن موضوعٍ بعينه؛ لا يَكتَفي الجمهور بإدراك ما تمّ نشرُه فقط، بل يكون وعيُه قد شكّل صورة معينة أو استدعى المخزون التصوُري السابق للموضوع المنشور. وعليه فإنَّ وسائل الإعلام تقومُ بصياغَة التصوُّرات لدى الجماهير وتسندُها لأحكامٍ وعواطِف وتصَوُّراتٍ قبليَّة، وتهدِف من ذلك إلى ترسيخ هذه الصُور الذهنية أو النمطيَّة في أذهان جماهيرها بشكلِ جُرعات متكررة ومتنوعة الشكِل لذات المحتوى، فتصنعُ بالنتيجة؛ جمهورًا ذا شخصيةٍ موجهة، تقودُهُ وسائل الإعلام.
إنَّ وسائل الإعلام بِذاتِها لا تصنِعُ الصُورَة أو تُغَيِّر مِنهَا، وإنَّما تُوجَد مُؤسساتٌ أخرَى تَعمَل فِي هَذَا الاتِّجَاه وَتَسعَى إلى تَحقِيقَه، ففِي المُجتَمَعاتِ عَامَّةً مُؤسَسَات تَعمَل عَلَى تَقدِيمِ المَوادِّ والمَعلُومَات الخَامّ التِي يَتِمُّ مِنهَا تَشكِيلُ الصُورَة النَمَطِيَّة لِلمُجتَمَع، حيثُ تَتَلَقَّف وسائِلُ الإعلام هَذِهِ المَوادّ وَتُشَكِّلُها فِي مَوادِّ إعلاميَّة مُناسِبَة يَتِمُّ الاعتمَاد عَلَيهَا فِي صِناعَة أو تَغيِير أو تَعدِيل أو تَأكِيد الصُورَة النمطية الذِهنِيَّة للأفرَاد والُمجتمعات والدُوَل والمُؤسَسَات بِما فِي ذلك الآخَر.
تجدُر الإشارة إلى أنَّ الدول العُظمى تُنفِق ملايين الدولارات للهيمنة على وسائل الإعلام الكبيرة في الشرق والغرب، وذلك بهدَف التحَكُّم في معتقدات ومواقف الجماهير، فهذه الكيانات السياسية تُدرك تمامًا ما لهذه الوسائل من قُدرة كبيرة في بناء الصُور الذهنية أو النمطية لدى الأفراد في المعمورة، وبالتالي قدرتها على التأثير والتوجيه والتعبئة المباشرة.
في هذا السياق، نجد أنَّهُ على الرغم من حجم التغطيات الإخبارية التي تقوم بها وسائل الإعلام التقليدية ووكالات الأنباء العالمية للخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي قدمها الجانب الفلسطيني في الانتفاضات والمعارك المتوالية؛ إلا أنَّ حجم الدعاية الإعلامية التي يقودها الإعلام الغربي في مختلف وسائله ومنابره (الداخلية والخارجية: المنابر العربية الموالية والمطبعة مع الكيان الصهيوني) أكبر بكثير في الوصول والتأثير على الرأي العام الدولي، فاليهودي في أرض فلسطين (ضحية) كما تُظهره الآلة الإعلامية الغربية والخسائر، البشرية والمادية، التي يفقدها في معاركه مع الطرف الآخر هي خسائر دامية للأفئدة والقلوب، كما تصوره تلك الوسائل التي لا تنفك عن ربط مصير اليهود الحالي بحالة الشتات الكبيرة (الديسابوراDiaspora) التي كانوا عليها، ما يجعل القصة التي يسوقها إعلامهم قصة مؤلمة تستحث شفقة الرأي العام الدولي على الأمة اليهودية المشتتة وغير المستقرة.
فالحركة الصهيونية العالمية تُعدُّ المحرك الأساسي لنظام الإعلام العالمي وما يضمه من قيادات ومؤسسات وجماعات ضغط مسيحية وصهيونية أصولية والذي يتجسَّد في التنفيذ (في الداخل الإسرائيلي والأمريكي والعالمي) في شكل رسائل وخيوط دقيقة تنقل أفكار هذه الحركة وصورها النمطية السلبية وتنشرها في شكل أفلام سينمائية وتلفزيونية وإعلانات ومنشورات وكُتب وبرامج إذاعية وتلفزيونية ومناهج تربوية وبرامج تعليمية وأخرى في الندوات والمؤتمرات والتظاهرات والتبرعات والمشاريع التجارية إلى غيرها من وسائل التأثير المباشر وغير المباشر التي تقوم بخدمة أهداف الصهيونية الإعلامية السياسية ودعم تأييد سياسة وكيان إسرائيل وتوسعها التهويدي والعنصري وتبرير حُروب إسرائيل وعملياتها العسكرية والاستراتيجية الخارجية.
نخلُص إلى أنَّ وسائل الإعلام العالمية (التي يُهيمن عليها اللوبي الصهيوني وغالبية مُلاكها من اليهود الصهاينة) تقوم برسم صورة نمطية سلبية عن الجانب الفلسطيني وتصدير صور ذهنية إيجابية عن الجانب اليهودي الصهيوني، وفي المحصلة فهي تقوم بحملة إعلامية منظمة لتشويه وتضليل وتزييف الحقائق، ناقلة المطالب الشرعية للشعب الفلسطيني على أنها اعتداءات ومشاغبات واضطرابات داخلية وإرهاب مُمارس على المدنيين والعساكر الإسرائيليين.
الحقيقة، إنَّهُ لمواجهة تدليس الإعلام الغربي وتزويره لحقيقة الرواية الفلسطينية لا بُدَّ أن يكون لدينا في الأساس إعلام عربي وإسلامي قادر على الإنتاج المستقل وصُنع القصة الإخبارية الحقيقية دون خوف، وهذا أمر بعيد، على الأقل حاليًا، خلال العقدين الحاليين. وسبب ذلك أنَّ وسائل الإعلام الرسمية التقليدية في النطاق العربي الإسلامي هي وسائل مسيسة بالمجمل، لا تحيد، إطلاقًا، عن الرؤى الاستراتيجية والسياسية التي تنتهجها الحكومة السياسية الحاكمة. وهذه الحكومات إن لم تكُن من الدول المجاهرة بالتطبيع، فإنها إما من الدول المطبعة بصمت أو حتى من الدول المحايدة، وهي دول غير فاعلة على الصعيد الدولي، ولا يُمكنها أن توجه إعلامها الرسمي لتقديم مادة مؤثرة في هذا السياق، وتقدم الرواية الفلسطينية الحقيقية وتصحح الصورة النمطية التي يُصدِّرُها الإعلام الغربي في وسائله التقليدية والجديدة.
إذن ما الحل في ظل ضعف الإنتاج الإعلامي المستقل والحر في المنطقة العربية الإسلامية؟ الحل يكمن في تفعيل دور صُنَّاع المحتوى الإعلامي (إعلام الموطن) بشكل منهجي ومدروس، ليقوم هذا الجيش الإعلامي الإلكتروني بالقيام بدور الإعلام التقليدي، الذي يتربَّى في مهد الحكومات المحلية ويوالي الحكومة العالمية). وللقيام بهذا الدور في منصات الإعلام الجديد بشكلٍ فاعل، يجب ألا تخمد شرارة النشاط الإعلامي المكثَّف في هذه المنصات، تمامًا كما حصل مؤخرًا في قضية حي الشيخ جرَّاح، فالاستمرارية تُمكِّن هذا الإعلام من مواجهة الصور النمطية المتواترة التي يصنعها الإعلام الغربي، بل وتكوين المواقف والاتجاهات والسلوكيات والصور الذهنية وغرس الأفكار وتأكِيد هُوية المواطن الفلسطيني وحقوقه وتنهَض بِدَورِ المُواطِن العالمي فِي تفَاعُلِه مَعَ الأحدَاث وَالقَضَايَا التِي تَرتَبِط بِمَصلَحَة القضية الفلسطينية من خلال اقناع الجماهير العالمية وتوجيهها وضمها شيئًا فشيئًا لجيش المقاومة الإلكترونية.