خلال الفترة القريبة الماضية، ركزت على كتابي د. عبد الوهاب المسيري الصهيونية والحضارة الغربية، والإنسان والحضارة، وأحسب أنهما يقدمان تلخيصاً مذهلاً في التاريخ الاجتماعي المسيحي للغرب، وفي علاقته بالفكرة الصهيونية أو قل في إنتاج العقيدة الصهيونية ذاتها، وهناك الكثير الذي وقفت عليه من الأهمية البالغة، لإعادة بعث فلسفة د. المسيري، رحمه الله، والذي تبين لي حجم تميّزه لزمننا الحالي، وإن كنتُ مؤمناً بنظريته وأفكاره منذ زمن، لكن عالم اليوم يعطي أدلة نبوءة فارقة للمسيري، في مآلات الأفكار الغربية وأصولها الفلسفية.
ولكنني اليوم سأركز على مشهد هولوكوست غزة، وعلاقته بمشروع المسيري لتعرية التاريخ الإنساني للغرب، وسَبْق المسيري في منظومة التفكيك للفلسفة السياسية الغربية الحديثة، ودورها في أزمة العالم الحديث، وهو هنا يشتبك مع عدة مفكرين وفلاسفة، من إدوارد سعيد وأنور عبد الملك حتى وائل حلاق وطه عبد الرحمن، ورغم أن المسار هنا موحد في اتجاهه العام، لتبيين المعنى الفارق بين ما اسماه ادوارد سعيد بـ (الإنسانوية الغربية)، لكي يعزلها عن مصطلح الإنسانية، في مفهوم العدل الأخلاقي الجامع للأسرة البشرية.
إلا أن لكل من هذه الشخصيات طريقه الخاص، فيكتفي البعض بنقض المعيار الأخلاقي والدلالي للحضارة الغربية، ويفترق بعضهم في العبور إلى تقديم البديل الفلسفي الأخلاقي، الذي يحتاج عالم البشر تقعيده وتأسيس مداره الانطلاقي، ليس من خلال الفكر النظري وحسب، ولكن من خلال الضرورة القصوى، للوصول إلى ميثاقية صلبة في تحرير مفاهيم الوحدة الإنسانية، وأخلاقها النزيهة لكل البشر، والذي يسقط فيه الغرب من جديد، ليس في الاختبار وحسب.
ولكن في انكشافه كفاعل تدميري لمنطق العدالة، وعرّاب المذابح الكبرى في تاريخ الوجود الإنساني، من قبل الميلاد حتى محرقة غزة الحالية، ولذلك فإن صعود المشهد الواقعي المنظور أمام العالم اليوم، ليس من خلال الاشتباك العسكري بين المقاومة والكيان الصهيوني، ولكن عبر ميزان التحرير الأساسي لتعريف الإنسان، والطفل وحق المرأة والمدنيين، حيث إن وصف وزير الحرب الصهيوني، لشعب غزة المدني بأنهم حيوانات، يقطع عنهم الماء والكهرباء والغذاء، ليس رد فعل ولم يكن كذلك في تاريخ المواجهات.
ولكنه فعل أصلي تأسس على المنظور الغربي، والمقياس القديم، في فرز الشعوب (المتقدمة) عن الأمم الأخرى التي تستحق الإبادة، لتقوية ماكينة الغرب الاستعماري المتوحشة، وهذه بالضبط هي المنظومة الضخمة التي عمل على تبيينها، عبد الوهاب المسيري، ووثقها بمصادر ذات مصداقية عالية، في كلا الاتجاهين، الميلاد الصهيوني للعقيدة، والأرضية والنبتة الأولى للتفوق القومي، التي رعتها الحضارة الغربية، في أوج صعودها.
ونصحح هنا المسألة التي تعقب بها د. المسيري وهي كونه قد قدم، البنية الغربية سياسياً وفلسفياً، في رؤيته التاريخية على دور اليهود، كمنشئ أصلي لميلاد المشروع الصهيوني، وأبطل رواية أن الغرب امبراطورية بلهاء، غرر بها الصهاينة، فالوثائق والسرديات والمذكرات الصهيونية، وبالذات نشاط هرتزل في المجتمع اليهودي، من اسطنبول إلى لندن، كانت في الأصل تدفع عبر القوة السياسية الغربية وحكوماتها.
حيث نضجت فكرة الخلاص من اليهود، بعد توترات واضطهادات ضخمة، انتهت بالهولوكوست، ولم تكن فكرة الازدراء والحصار، خاصة بالنازية الألمانية، بل بمجمل التاريخ الاجتماعي المسيحي، حتى ما بعد عهد النهضة الأوربية، بل وبالذات بعد عهد التنوير، في القرنين الثامن والتاسع عشر، وواصلت هذه القوى والحكومات، تشجيع الآباء المؤسسين للصهيونية، لإيجاد وطن بديل، لم يكن اختيار فلسطين فيه صدفة.
وإنما كان يمثل للغرب الكولونيالي، بيضة القبان لاستنزافٍ بلا حدود للوطن العربي، وحاضر العالم الإسلامي، حيث كان احتلال فلسطين مشروعا وظيفياً أصليا وليس عابراً، فاستبيحت أرض السكان الأصليين، كما وقع مع الهنود الحمر، لكن فلسطين محاطة بعمق عربي ومركزية إسلامية ومسيحية، يصعب معها طمس أو اقتلاع هذه القوة الاجتماعية الشعبية.
ولذلك صُبّت على تثبيت إسرائيل، معدلات ضخمة للدعم لا حدود لها من الغرب، لكون الكيان مشروعهم الوظيفي فحمي بالاستيطان، من مواطنين غربيين يهود انتهكت حقوق آبائهم، وبعضهم حرقوا في الهولوكوست النازي المسيحي الغربي، الذي يتفق في أصله الفلسفي مع كل المسارات الغربية، في نظرية التفوق العرقي، وصُدرت مشكلة الغرب عبر المستوطنين اليهود، إلى وطن عربي لا علاقة لهم به، لتُستخدم عقيدة الصهيونية، كجسم وظيفي ضروري، للعب دور الجوكر المباشر للكولونيالية الغربية، ولذلك فزع الغرب مع الصهاينة لذبح عزة وشعب فلسطين، فرأى العالم نموذجاً واقعيا لرؤية عبد الوهاب المسيري.