منذ نعومة أظفارنا تمت برمجتنا على فكرة أن الإنسان كلما قسى على نفسه أكثر، أصبح في مستوى فضيلة أعلى. وبالتالي، صارت القدرة على التحمل والقسوة على الذات نوعاً من الارتقاء الفكري والنفسي والروحي. لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً.
عندما تداوم على التعامل القاسي مع ذاتك فيغدو الأمر عادة شبه يومية، فإنك في الواقع ترسل إشارة إلى العقل الواعي دون أن يدري، تفيد بأنك لا تستطيع تغيير أي موقف أو حالة أو وضع ترفضه ولا تريده في حياتك، لذا عليك احتمال الوضع الذي أنت فيه كما هو.
لتقريب الصورة أكثر، لا شك أن هناك أشياء غير مرغوبة في حياتك الحالية تتمنى تغييرها، لكنك قد تقنع نفسك بعدم قدرتك على إحداث التغيير المطلوب، وترضى بدلاً من ذلك بتحمل ثقلها بينما عليك في الحقيقة أن تسعى لتجاوزها.
ينطبق مثل هذا التوجه في كثير من المواقف الحياتية مثل علاقات الحب والصداقة، حيث يقنع البعض أنفسهم بضرورة استكمال علاقة فاشلة لن يكتب لها النجاح، من باب أن صبرهم وتحملهم هو تعبير عن فضيلة، بينما يخفى عليهم أن الشخص المقابل ربما لا يبادلهم نفس المشاعر.
نفس الشيء في العمل، يصبر معظم الموظفين على مشكلات العمل فيبقون في نفس وظائفهم رغم عدم رضاهم، دون أن يسعوا إلى حل أو حتى البحث عن وظيفة جديدة في حال لم تنفع كل الحلول المطروحة على الطاولة.
صحيح أن الصبر والقدرة على تحمل صعوبات الحياة أمران مهمان للغاية للنجاح، لكن الصبر على وضع لا يعجبك، وتحمل واقع ترفضه؛ ليس فضيلة بل هو تحطيم لذاتك، واستنزاف لطاقاتك، ووهم تتمسك به معتقداً أنك بذلك تثبت مقدرتك على التحمل، بينما ما تفعله لا يمت بأي شكل من الأشكال للصبر أو التحمل بصلة.
الصبر الحقيقي ليس في قبول موقف أو واقع لا ترغبه، بل في تحمل مشقات التغيير نحو الأفضل، في مواصلة التقدم إلى الأمام رغم كل العقبات، في تحمل التحديات على طريق النجاح وليس في الاكتفاء بالجلوس دون فعل شيء إزاء ما تريده أو لا تريده.
فانتبه جيداً ألا تقع في خدعة تحمل شيء لا يعجبك بحجة أن ذلك فضيلة، أو إثبات لقدرتك على تحمل الصعوبات. استخدم الصبر عندما تسعى إلى تحقيق أهداف تدرك أنها تحتاج إلى وقت وجهد حتى تتحول من فكرة إلى واقع مادي حسب قوانين الكون وسننه الثابتة. لكن لا تصبر أبداً على علاقة فاشلة أو موقف سيئ أو وضع مرير يمكنك تغييره إذا عقدت العزم على ذلك.
صحيح أن «القناعة كنز لا يفنى» لكن ذلك عندما تتقبل واقعك بحلوه ومره، مع سعيك في الوقت ذاته إلى تحسين جودة حياتك، بدلاً من الاكتفاء بوضعك الراهن. أما من يقنع بحاله دون أن يفكر بالتقدم إلى الأمام، وتجاوز الأشياء السلبية التي لا يرغبها في حياته؛ فهو لا يمثل تجسيداً حقيقياً لمبدأ القناعة أو الصبر، بل يجسد مفهوم الخنوع والتكاسل وانعدام الطموح.
عندما تحتمل الأمور كما هي فأنت في الواقع تطلق رصاصة على حب الذات الداخلي. بمعنى أنك تتسبب لذاتك بأذى كبير، يتمثل في أنك توصل رسالة إلى أعماقك بأنك لا تحب ذاتك بالشكل الكافي الذي يدفعك إلى تغيير واقعك ليصبح صورة لما تحلم به.
فلا تقبل الأشياء التي لا تريدها في واقعك، ولا تصبر على وضع لا يعجبك، ولا ترضَ بوظيفة لست سعيداً فيها أو راضياً عنها، ولا تستمر في علاقة فاشلة؛ بل عزز حبك لذاتك من خلال سعيك إلى تغيير الواقع الذي ترفضه، وصولاً إلى واقع أجمل يحاكي تطلعاتك وأحلامك، مقروناً بصبر جميل على طول الطريق الموصل إلى حيث تريد.