ثَبّتت ذاكرة القراء العرب قصة غازي القصيبي وإصراره الصلب على تسخير شعره وقلمه في سبيل فلسطين، وخاصة رفضه أي اعتذار عن قصيدته الشهيرة في الشهيدة آيات الأخرس، رغم موقعه الدبلوماسي والحملات الشرسة التي تعرض لها من الإعلام الصهيوني المباشر والغربي عبر مدافع قنواتهم وصحفهم الكبرى، فضّل عازي القصيبي أن يفقد موقع الأمانة العامة لليونسكو على أن يوقّع أي نص اعتذاري يتعلق بفلسطين، يوهن من روحه في سبيل فلسطين، أو يؤثر عليها في المدد الأدبي والإعلامي لنصرتها. كان غازي في قمة المعرفة والتفاعل مع الذات الغربية وتاريخها وثقافتها، ليس لكونه قد اقترن بسيدة ألمانية عظيمة ونحن نستذكر سيرته اليوم نحيي أم سهيل اليوم بأجمل تحية عاطرة وباقي أفراد الأسرة، ولكن لدور التأسيس الاجتماعي له وذكائه، واحتوائه لبرتوكولات الغرب، فضلا عن حياته الدبلوماسية والوزارية الوظيفية الغنية التي أعطته نصيباً جيداً من العلاقات، تمكنه من الإقناع لدعم ترشحه كأمين عام لليونسكو. ورغم أن جزءاً رئيسياً من آلية إسقاطه استَخدمت الصوت العربي الرسمي، لكن الجرافة الغربية وخلفيتها الإسرائيلية كانت صاحب القرار الأخير الذي يحسن التلاعب بأصوات العرب والمسلمين. ظلت قصائد غازي ومقالاته وبعض حواراته التي أشار لها في كتاب الوزير المرافق داعمة لصمود فلسطين، وإن كان بعض شهاداته جامل فيه التوجه السياسي لدولته كثيراً، لكنه كان يثير هذا المسار ويشرح بعده في حوارات الدبلوماسية الغربية – العربية، وعينه على فلسطين. لكنه أفرد مرحلة مهمة عن هذه المواجهة في وقت مبكّر من حياته الشبابية، حصل د. غازي القصيبي على بعثة جامعية في جامعة جنوب كالفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية، كان انضمامه في الستينات لأنشطة الطلبة العرب، في ذروة صعود الصراعات العربية الرسمية التي كانت تشتعل بين دول المحور الأميركي ودول المحور السوفياتي، وتؤثر على الشباب ومواقفهم.. يروي د. غازي كيف عطّل الانقسام عمل الشباب العرب، وحولهم إلى كتلتي صراع، لا يُمكن أن يعبر عبره أي جهد عربي فكري ولا موقف تعاضدي لأجل القضية العربية. قَبِل أن يترشح لاتحاد الطلبة العرب، وفي بيانه الانتخابي رفض أن يروج حملة دعائية، واكتفى بأن يسعى لتحقيق أقصى مدار لمعالجة الانقسام ولتفعيل الاتحاد في اتجاهين فقط، الأول الثقافة لا السياسة هي مضمار الحراك، والثاني أن المسار السياسي الوحيد الذي يركز عليه اتحاد الطلاب العرب هو فلسطين فقط، وبالتالي مهمته هنا مواجهة المشروع الصهيوني وتضليله الإعلامي الضخم، وبالفعل فاز د. غازي بكتلة أصوات من الطلبة السعوديين، مشاركة مع الطلبة العرب، رغم بيانه الانتخابي البسيط والصريح الذي قد يكون سبب فوزه. يروي غازي القصيبي هنا شهادة مهمة عن عقلية التفكير الصهيوني الذكية، مقابل البربوغندا العربية، فلقد أسس مجلة ثقافية وبدأ أنشطة حيوية كانت تُعد وتُدار وتوزع وتنظم من خلاله ورفيقه بصورة كبيرة، وأصبح الحديث عن قضية فلسطين ممنهجا لعرض الرواية الصحيحة عنها، ولقد أدرك القصيبي أن العقل الإسرائيلي ذلك الحين، يعتمد في صراعه مع النشاط العربي على فكرة التوريط ثم التشويه. وأن حضور بعض الصحفيين ببعض الأسئلة الاستفزازية للمحاضر كان يكفي أن يجني المحاضر على نفسه ويُسقط النشاط على قضيته، فالانفعال ثم تصوير هذا المنفعل يكفي للدلالة على سقوط مصداقية المتحدث، وعنف خطابه الذي يثور بسؤال من صحفي صهيوني متمرس. ولكن اللوبي الصهيوني كان يعتمد في وقت مبكّر على الوسائط البسيطة في حينها قبل السوشيال ميديا، وهي مواجهة أي نشاط عربي بحملة رفض وإدانة بسلة رسائل تتقاطر على المجلة أو المؤسسة أو الجامعة التي تدشن الأنشطة فيها، وهذا ما واجهه غازي القصيبي ورفاقه في مجلة وأنشطة الجامعة حين التقط اللوبي الصهيوني الرسالة. كما أن الصراعات العربية التي تخدمه مجاناً اخترقها هذا الشاب وبدأت أنشطته تثمر، فشنوا على المجلة حملة مراسلات مضللة، تستخدم مع كبريات الصحف، حين يرتب نموذجاً جاهزاً رغم أنه يوزع عبر النموذج الورقي التقليدي، لكن الجمهور الموالي لتل أبيب يتعامل معه بحيوية مقابل كسل لا يوصف من العرب. لقد كان سجل غازي القصيبي في المقاومة الفكرية الأخلاقية للمشروع الصهيوني متقدما من أيام شبابه كما هو رصده لآفات الصراعات العربية القديمة، لكن روحه المعطاءة وكفاحه المجيد لم يخب من مقاعد الدراسة وحيوية الشباب، وبقي قلمه مضيئاً في سبيل الحق المبين وحرية فلسطين.{ رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية