ينبغي للحكومة أن تُشكّل بحيث لا تعود هناك حاجة لإنسان أن يخاف من إنسان آخر.

«مونتسكيو فيلسوف القانون السياسي الفرنسي»

كشف روسو في آخر كتاب إميل عن المحطة الأخيرة، التي عبر عليها، قبل قرار تدوين العقد الاجتماعي، وأعلن أن قناعته بأن القانون السياسي، لا يزال في مرحلة المخاض فهو لم يولد على الإطلاق، حسب قوله، وأظهر روسو استعلاءً حاداً على من سبقه، يبرره بزعمه المعرفة الحتمية لمحاولات التدوين للفقه السياسي الدستوري، ففي حين برر أمطار هوبز باللعنات، سخر من لاعنيه كونهم من أنصار هوجو جروتيوس، والذي وصفه بأنه طفل في هذا العلم، ولكنه طفل سيئ النية، وخلاصته متفقة مع هوبز.

هذه الروح الاستعلائية الشرسة في روسو، يمكن أن تُنتقد بوضوح لكن ما هي دوافعها، هنا السؤال، فهو يقول إن جروتيوس يعتمد الأشعار وهوبز مصدره أغاليط.

* جروتيوس فيلسوف وعالم لاهوت هولندي وضع نظرياته في القانون الدولي بناء على الحق الطبيعي 1583 - 1645

دون أن يُفصّل، إلا أن استطراده بعد ذلك يشير إلى تشكيك روسو في التسخير الأكاديمي الممول، الذي رعى هوبز* وجروتيوس وأن هدف الأكاديمية التغزل بسلطان ذلك الوقت، لا إقامة حقوق البشر، ويعود لرحلته مع إميل مستشهداً بأن العودة إلى الطفولة والفطرة هي القاعدة الأولى، لنحكم هل ولد الناس أحراراً أم ولدوا عبيداً، ثم يعيد مسطرته في تاريخ الطفولة وموقفه من سلطة الأبوين، والتي طُوّرت بعد ذلك في عالم الحداثة، لتهدم القيم الأخلاقية نفسها التي حاول روسو أن يزرعها قي روح إميل، وقد ناقشنا هذا الأمر في مرحلته التربوية، في الفصول السابقة.

إن استدعاء روسو للرق هنا ينبع من نزعة التحرر الشديدة، التي تهيمن على روحه، وهو هنا يقرن منظومة الحكم في عهده بروح الاستعباد، ولذلك قرر أن ينتخب مونتسكيو وأطلق عليه لقب المجيد، لكي يعلن مرجعه المفضل في التشريع الدستوري للعقد الاجتماعي، وقد توفي عند تدوين روسو لعقده الاجتماعي 1755 م، ولعل كتابه روح القوانين هو الملهم الرئيس لروسو وخاصة في مفهوم فصل السلطات، وفي الاتكاء المركزي على التاريخ الروماني.

وعلى هذا التأسيس واصل روسو آخر صفحات كتابه إميل، لكي تتحول نقاشاته مع إميل حسب ما حدده، مقدمات عملية لنقل الروح الحقوقية المستقلة، إلى برنامج التشريع بعد ميلادها في فطرة الإنسان، الذي رباه روسو في نموذج إميل.

توماس هوبز فيلسوف إنجليزي أسس لنظريات الفلسفة السياسية لمنظور العقد الاجتماعي، حيث يطرح روسو مجموعة من الأسئلة تقود إلى أجوبة مختلفة، في تنظيم الحق والقوة، تنتهي إلى أهمية التعاقد الاجتماعي، ومبدؤه أن قوة السلطة قائمة على عقد الشعب، وأن فسخ التعاقد من قبل الشعب حق، تسقط به سلطة الدولة.

ولكنه كالمعتاد يخلطه بالرعاية الأبوية، ويجمعها مع السلطة السياسية، وهي أزمة عميقة في روسو، تبرز بسبب محاولته تكفيره عن خطاياه في حق أطفال تيريز لوفاسور، وجنايته عليهم وعليها، ولذلك فتفكيك هذا البعد وتجريده ضرورة مهمة، لفهم أزمة روسو النفسية، وما رُكّب على مبدئه في نزع سلطة الأبوين في عالم الحداثة بعده*.

ثم يستطرد روسو وهو يضع مقدمة تفصيلية، لكل أبعاد عقده الاجتماعي التي من الوضح أنه، شرع فيها قبل نهاية كتاب إميل، وترتبت صورة واضحة لديه، ويشرح مفهوم الإرادة العامة ونصيب إرادة الفرد فيها، ورهن السلطان بالإرادة المشتركة الكلية، لحماية الشعب من تغول السلطة، ويحاول أن يفك الاشتباكات التي تطرأ على الحق الدستوري، وتوزيع الصلاحيات بين النخبة المفوضة وعموم الشعب (الإرادة العامة).

والذي سبق له أن قرأ العقد الاجتماعي، يُدرك أن روسو اقتبس منه خاتمة كتاب إميل، ليربط مشروعه التربوي بعقده الدستوري الثوري.

· بسطنا نقد هذا المفهوم في الفصول المتعلقة بطفولة إميل

قبل أن يُعيد إميل لعشيقته وخطيبته صوفي، محتفياً بإدراك إميل، لمقاصد تربيته حيث يشكر أستاذه روسو، الذي يواصل تنظيم مشاعره لضمان الحياة الروحية السعيدة، لشابين حرين كما يصفهما، حيث تكرست عند إميل عقيدة الكرامة وقوة الاستقلال عن المصالح المادية، كما حددها ورسم خارطتها روسو.وروسو يغوص في ختام قصته وكأنهُ بالفعل قد حقق هدفاً ملموساً واقعياً، وهو يَنصب عينيه للحظة التي تولد فيها، طبقة الثورة التي تحمل عقده الاجتماعي لسحق الإرث الملكي الكنسي، وأما الثورة فقد تحققت بالفعل، وعقده الاجتماعي قد أخذ مقعده كإنجيل لها، واستُنسخ في الغرب الأميركي وأوروبا، أما الحكم عليه فيما أصاب وفيما أخطأ فهو مهمة مراجعة من بعده.