لم يكن مستغرباً أن يبدأ خطاب حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى، يوم أمس، في افتتاح دور الانعقاد العادي الثالث لمجلس الشورى، بأحداث الساعة الساخنة.. من فلسطين قضية العرب والمسلمين، وكل الأحرار والشرفاء، حيث يتعرض أشقاؤنا لأبشع أنواع الاضطهاد تحت القصف والضغط والتهجير، ويعيشون في ظروف عصيبة غير مسبوقة، تفوق التصور وخطيرة التطور، فهذه هي طبيعة القائد الإنسان، الذي يستطيع بنظره الدقيق، وحسه العميق، أن يحدد الأولويات.. ومنها يبدأ، وعليها يركز.
فسموه كما عودنا دائما ما تتصف خطاباته بالشفافية في المعلومات، والمباشرة في الآراء والتحليلات، والجرأة في الطرح والموضوعات، وهو ما يجعل المتابع له على اطلاع بمختلف القضايا على كافة الصعد المحلية والإقليمية والدولية.
كما سيلاحظ المتابع للخطاب- والذي بدأ بالأحداث الإقليمية الملتهبة وليس بالقضايا الداخلية، كما جرت العادة- أنه اشتمل على قيم عديدة، وأفكار جديدة، تشمل محاور مهمة، ومضامين ملهمة، تعكس رؤية سموه تجاه مختلف قضايا العمل الوطني، وترسم معالم المرحلة القادمة، وأهداف الدولة القريبة، واستراتيجيتها للحفاظ على النمو الاقتصادي القطري، في ظل التحديات التي يشهدها العالم، من أجل مواصلة عملية التنمية والبناء في مختلف المجالات، وفقا للأهداف والمرتكزات الوطنية.
لذلك لن نبالغ إذا قلنا إن كافة أطياف المجتمع المحلي، والرأي العام الخارجي، تترقب خطابات سموه وتنتظرها، لتستلهم رؤية قيادتنا في القضايا المصيرية المحلية والخارجية، وقراءة خطط الدولة في الرؤية المستقبلية.
فقد بدأ سموه كعادته بالترحيب بالمجلس الموقر، وتمنى له كل التوفيق والسداد في القيام بمهامه الجليلة.
وتوجه سموه بالتحية للعمل التشريعي وثمن المشاركة في المؤتمرات والاجتماعات التي تعقدها الاتحادات والمنظمات البرلمانية الإقليمية والدولية لمتابعة التطورات التشريعية.
ثم توجه سموه مباشرة بالحديث عن فلسطين وأحداثها، مؤكدا أنه لا يجوز السكوت عن القصف الهمجي غير المسبوق الذي يتعرض له المدنيون في قطاع غزة، ولا تجاهل الأعداد المهولة من ضحاياه الأبرياء من الأطفال والنساء.
وهنا أكد سموه على استراتيجيتنا بأننا دعاة سلام، ولا نفرق بين إنسان وآخر، أيا كان نوعه أو دينه، وأننا نتمسك بقرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية وغيرها، وأننا ضد التعرض للمدنيين الأبرياء من أي طرف، ولا نقبل الكيل بمكيالين، ولا التصرف وكأن حياة الأطفال الفلسطينيين لا تحسب، موضحا أن ما يجري خطير للغاية، بما في ذلك الدوس على جميع القيم والأعراف والشرائع الدينية والدنيوية، وليس على القانون الدولي فحسب، وأنه لا يجوز أن تمنح إسرائيل ضوءا أخضر غير مشروط وإجازة غير مقيدة بالقتل، ولا يجوز استمرار الاحتلال والحصار والاستيطان، ولا يفترض أن يسمح باستخدام قطع الماء ومنع الدواء والغذاء عن أحد.
وهنا توجه سموه بسؤال إلى المصطفين خلف الحرب: ماذا بعد هذه الحرب؟ هل ستجلب الأمن والاستقرار للإسرائيليين والفلسطينيين؟ وأين سيذهب الفلسطينيون بعدها؟ مؤكدا أن الحرب لا تقدم حلا من أي نوع، وأن السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار للشعبين هو تحقيق السلام العادل وحصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه المشروعة، بما فيها إقامة دولته المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ثم انتقل سموه إلى الصعيد المحلي، موضحا أنه رغم الصعاب التي يعاني منها الاقتصاد العالمي وتأثيرها السلبي على العديد من الدول، إلا أن اقتصادنا واصل نموه خلال الربع الأول من هذا العام، حيث تشير البيانات الأولية إلى نمو الناتج المحلي بالأسعار الثابتة بنسبة 2,7 بالمائة مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي.
وأكد سموه أن الدولة ستقوم بتخصيص الموارد اللازمة لتنفيذ مبادرات ومشاريع استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة، بالإضافة إلى المشروعات الرئيسية ذات الأولوية لتعزيز الفرص المتاحة أمام القطاع الخاص.
وأوضح سموه أن الارتفاع في أسعار الطاقة عن السعر المعتمد في موازنة للدولة، أدى إلى تحقيق فائض خلال النصف الأول من العام، وسوف يستخدم في خفض الدين العام وزيادة الاحتياطيات المالية للدولة، مؤكدا أنه تم خفض مستوى الدين العام من قرابة 73 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي في عام 2020 إلى ما دون 40 بالمائة في نهاية النصف الأول من عام 2023، وهذا إنجاز مهم على مستوى صحة اقتصادنا الوطني واستقراره، مما ساهم في تغيير النظرة المستقبلية من «مستقرة» إلى «إيجابية»، وفي خفض معدل التضخم من 5 بالمائة في عام 2022 إلى 3,6 بالمائة للنصف الأول من عام 2023، وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض التضخم في الدولة خلال المدى المتوسط ليبلغ 2 بالمائة.
وأكد سموه أن الدولة تولي اهتماما بالغا بتطوير بيئة الأعمال وجذب الاستثمار وتحقيق الفائدة من البنية التحتية المتاحة، مع الوضع في الاعتبار تفعيل بنود قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص في جميع المشاريع، والتأكيد على وجود آلية مستمرة في الدولة لتطوير التشريعات المنظمة للاستثمار الأجنبي لإزالة المعوقات التي تواجه ذلك الاستثمار، وإبراز قطر على الصعيد الدولي كحاضنة للاستثمار الدولي المباشر.
وهنا أكد سموه أن المطلوب هو تغيير بعض الأمزجة والمقاربات البيروقراطية السلبية باتجاه الانفتاح للاستثمارات وتشجيع الشركات الناشئة، وإيجاد البيئة المؤسسية المرحبة، مقرا سموه بأن ثمة ثغرات قانونية يجب سدها، ومعوقات يجب إزالتها، مثل عدم وضوح الإجراءات، وأحيانا جهل الموظفين أنفسهم بها، والتضارب بين الهيئات، وهي أمور يمكن حلها بسهولة.
وأوضح سموه أن عملية إعداد استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة شارفت على الانتهاء، نظرا لأن هذه الاستراتيجية قد تمحورت حول ركائز رؤية قطر الوطنية 2030، وهي التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
وأضاف أنه آن الأوان لإنجاز قاعدة بيانات مركزية متكاملة تلبي الاحتياجات الوطنية من البيانات بكفاءة، خاصة أن البيانات الإحصائية الموثوقة أداة هامة في تحديد الاحتياجات الحقيقية الحالية والمستقبلية للدولة.
ثم انتقل سموه إلى موضوع غاية في الأهمية وهو البيئة، موضحا أن الدولة أولتها أهمية خاصة، وشمل ذلك زيادة المساحات الخضراء وبناء محطات معالجة المياه، وإعداد برنامج وطني متكامل لإدارة النفايات وتحويلها إلى طاقة نظيفة، والارتقاء المستمر بجودة الحياة.
وتحدث سموه عن النمو الاقتصادي، مؤكدا أنه يعتمد بشكل كبير على مدى الاستثمار في رأس المال البشري.
وانتقل إلى الارتقاء بالمنظومة القضائية، وأوضح أن المبادرة الوطنية لتطوير أنظمة العدالة تحقق تقدما في بلوغ الأهداف المرجوة منها في مجال العدالة الناجزة.
وتوجه سموه إلى سياستنا الخارجية، مؤكدا أننا نسعى إلى الموازنة بين مبادئنا ومصالحنا وانتمائنا لبيئتنا الحضارية إلى أداء دور بناء في صنع السلام وحل النزاعات بالطرق السلمية والتشديد على العدالة في العلاقات الدولية، لذلك باتت قطر تُعرف اليوم بأنها وسيط موثوق به في صنع السلام، وفض النزاعات عبر الحوار والدبلوماسية.
وهنا رحب سموه بالاتفاق الأميركي- الإيراني لتبادل المحتجزين، وبسماح روسيا لأربعة أطفال أوكرانيين أن يلتحقوا بعائلاتهم في أوكرانيا بوساطة قطرية، مع المضي قدما في تسهيل الحوار بين مختلف الأطراف، تعزيزا للأمن والسلم في منطقتنا والعالم.
وعلى المستوى الإقليمي رحب سموه مجددا بالأشقاء قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة في ديسمبر القادم، في القمة المقبلة، آملا أن تشكل تلك القمة منعطفا هاما في تعزيز عملنا المشترك، بما يلبي تطلعات شعوبنا.
وأكد سموه أن التنمية، والازدهار لا يحتاجان إلى إقرار التشريعات والسياسات من أعلى فحسب، بل يتطلبان حسن تنفيذهما من جانب أجهزة الدولة المختلفة، وإدراك المواطن أهمية دوره في موقعه، ومسؤوليته الاجتماعية، وواجباته تجاه الوطن، وتوسيع مجال رؤيته واهتمامه ليشمل مصلحة المجتمع والدولة.
وهنا توجه سموه للجميع حاسا إياهم بضرورة تكامل نظرتنا إلى أنفسنا مع صورتنا في الخارج، كما حصل إبان كأس العالم في قطر، حتى يحدث التقدم المطلوب، فالتفاعل الإيجابي مع الخارج ينعكس على شكل تقدم في الداخل، والعكس صحيح.
وهذا منطق التفاعل الحضاري بما يشتمل عليه من تسامح وتقبل للتنوع، فالتفاعل الحضاري وتقبل الاختلاف ليس نقيض الهوية القطرية العربية المسلمة، بل يسهم في إنضاجها وتطويرها، مؤكدا أن الثابت هو التكامل بين الأخلاق في الحياة الخاصة والعمومية، وهذا يمتد من اهتمامنا بالأسرة بوصفها اللبنة الأساسية لمجتمعنا، وتربية أبنائنا والجيرة الحسنة والإخلاص في العمل، وصولا إلى التضامن مع القضايا العادلة.
آخر نقطة...
خطابات صاحب السمو تتصف بالوضوح والمباشرة والشفافية، وتتطرق بعمق للقضايا المعقدة المحلية والدولية.. تستعرض الداء وتحلل الأسباب وتصف الدواء.. وهي كفيلة بحلحلة المشكلات ووضع الحلول للخروج من هذه الأزمات.. بأقل الأضرار وبجملة من المكتسبات.
ولم يخرج خطاب سموه، أمس، عن هذه القاعدة، فهو لم ينس الماضي، ولم يهمل الحاضر، وهو أشبه ما يكون بخريطة طريق للمستقبل، أساسها الإنسان، بعيدا عن أي زمان أو مكان، تحقق لوطننا وشعبنا، بل للإنسانية جمعاء، الاستقرار والسلام، والأمن والأمان.
محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول