لعل مقدمات المشهد العربي الرسمي أمام هولوكوست غزة، كانت حاضرة في أرشيف المحلل السياسي سواء كان من أنصار القضية الفلسطينية أو من أعدائها، فالإعلام اليوم له دوره الضخم، ولذلك اصطفت الأمم الغربية، بحشد إعلامها مع سياسييها، لتغطية جريمة الحرب في غزة، ولهذه التغطية اليوم بعد داخل المنظومة الغربية نفسها، ولم يعد فقط لتعزيز موقفها أمام بقية العالم، وإن كانت حسابات النظام السياسي في الغرب، لا تزال تُصدّر الصورة التي تحتاجها أمام الكتلة الانتخابية الغربية، والولاء السياسي المحلي، وليس الضمير الإنساني حين يكون ضميراً حقيقياً.
ومع تحول المشهد من معركة طوفان الأقصى، إلى عدوان مركزي لا أرى من المناسب، أن يُجعل ضمن تداعيات طوفان الأقصى، لكون هذا الربط يخدم الآلة الصهيونية في الغرب، فالحقيقة هي أن غزة تواجه حرب استباحة أصلية، كل كومة الاعذار التي يقدمها الغرب، هي كتلة مزيفة عن حقيقة هدف العدوان وهو الإبادة بذاتها، إبادة جزء من الشعب الفلسطيني، في سبيل تصفية قضيته، ومع قوة اعتقاد الشعب في غزة وخارجها، وحتى في ضمير الأمة، من أن هذه الجولة ما هي إلا دورة صراع، لاسترداد الحق السليب، إلا أن هذه الجريمة الحربية الكُبرى، يجب أن تُكثف الجهود فيها لتعرية المعتدي.
ولعل من مفارقات الصورة الجديدة، التي أزعم أنها تطورت كثيراً كماً ونوعاً، في موقف النشطاء وبعض الرأي العام الغربي، وهي اسناد الحق الفلسطيني في اعلام السوشيال ميديا، المستقل عن إرادة قوة الملاك لمنظومة الإعلام الاجتماعي الضخمة، رغم أنهم يستخدمون ساحتها وأدوات هذه المنظومة، فلقد أبرزت لنا اليوم حليفاً يتصاعد حضوره، ويُضايق القنوات الإعلامية الكبرى، بل يحاصر بعض أغاليطها وافتراءاتها كما جرى مع الـ cnn وBBC وغيرهما.
ورغم أن الغالبية الساحقة من الرأي العام الغربي، لا تزال تحت نفوذ المشروع الغربي الإبادي، وكل أدوات امبراطوريته، المتحدة مع العقيدة الصهيونية، إلا أن هذا التأثير الإيجابي للنشطاء المعارضين، وفيهم أفراد عاديون، قدم دعماً يتجاوز كثيراً صورة المشهد الفلسطيني والصراع العربي الصهيوني، في حرب أكتوبر بل وحتى العدوان على غزة 1990.
وفي دورات التغيير المتدحرجة فإن هذا الاختراق النوعي، يصعد بقضية فلسطين في الوجدان الإنساني.
وقد يسأل سائل فهل تعيد هذه المشاعر والتصحيحات الأحبة إلى صدور أمهاتهم، هل ستصنع لهم مسكناً، هل تعيد بعث الحياة في أحياء غزة المدمرة على أهلها، وهي بعشرات الآلاف من الوحدات السكانية حسب الإحصاءات الأولية للفترة الماضية؟
فنقول لا..
لكن هذه الحرب رغم فظاعتها وشناعتها، تظل ضمن دائرة المعركة الكبرى، التي لا نعلم متى يأتي فيها أذان النصر للمستضعفين، بعيداً عن أحلام الأمم الصهيونية النازية، التي اثبتت أن النازية لم تكن إلا أحد فروع فكرة الإبادة الغربية، وبعيداً عن العاطفة الهستيرية، التي تقول إنه بعد أيام سوف تزحف مقاومة غزة إلى تحرير القدس، فليُقتل المزيد من الناس في سبيل ذلك!
الأمر هنا هو أن حلقة الوعي الجديد تخلق معدلاً تراكمياً، لمدرج الكفاح والتحرير، وهو تحرير سينطلق من الأرض العربية، ولكن الإسناد لإنجازه أو لدورة النصر القادمة، بعد هذا العدوان والله أعلم بزمانها، ستَستثمر في هذه القوة المعنوية الإسنادية.
لقد استبق مشهد اعتصام الكونغرس الأميركي، من بعض النشطاء والإنسانيين من يهود نيويورك، للمطالبة بوقف العدوان على غزة، وفعالياتهم الأخرى، كُنتُ أسخَر بألم من استدعاء الفيتو الأوروبي إلى مجلس جامعة الدول العربية، في اجتماع قمة عربي! يصول فيه الفيتو الصهيوني، على ألسنة الوفود الأوربية ويجول، وكأنما عُقد الاجتماع في الاتحاد الأوروبي، بل لو كان هذا الاجتماع في بروكسل للأوربيين، ربما وصلهم صوت احتجاج يهود نيويورك وغيرهم.
لقد كان أثر ما أنجزته الصهيونية الدولية، واضحاً في الأرض العربية، فسقطت ورقة التوت الأخيرة، وربما شعر الغرب النازي المتوحش بنشوة النصر، لكن هذه اللقطة لم تُنه القصة، فللحكاية بقية وبقية مهمة.
لقد أعلنت غزوتهم الإرهابية بياناً تاريخياً لأجيالنا، هذا البيان أكد أهميته رئيس حكومة العدو الصهيوني نفسه، وهي أن الصراع ليس مع النظام الرسمي العربي، المشارك المطبع، أو المتخاذل أو المقصر، إنما مع ضمير الشعوب ذاتها، قد تَخفُت زمناً وتتوارى، لكنها اليوم وصلت أخوّة أطفال غزة، فسقطت أكذوبة التطبيع، وبقيت حقيقة الكفاح وزوال المحتل، الحقيقة التي يخشاها نتانياهو وكل الصهاينة عَرباً وغرباً.