+ A
A -

لفتت نظري جلسة مميزة نظمها د. محمد الأحمري ضمن صالونه الأدبي «أسمارٌ وأفكار»، ويديره الإعلامي والمثقف المتمكن أ. أحمد فال، وهي فكرة رائعة جداً تنتقل باللقاءات الاجتماعية إلى مسرح الثقافة والفكر، وتأخذ مساحة ابتعاد طبيعية ولعلها ضرورية لأسباب عدة عن السياسة، ولقد ازدهرت في السعودية وفي دول خليجية في التسعينيات، وقدّمت مخزوناً كبيراً، لثقافة الشباب، منذ بداية الثمانينيات، قبل أن يخفت وهجها مؤخراً.

وكانت تجتذب شخصيات ثقافية من الوطن العربي مقيمة في الرياض وجدة والأحساء وغيرهم، تشارك في العرض وفي الحوار، فيستفيد الجيل من هذا المخزون المتعدد.

ومن ميزة صالونات السعودية في حينها، أنها لم تكن تقتصر على ذوي فكرٍ واحد، بل يحضرها ويُساهم فيها اتجاهات متعددة، وفي تقديري أن تلك اللوحة الجمالية مثّلت صورة مشرقة لأهمية أروقة الحوار، والانفتاح الفكري العربي بين الخليج والمحيط، كما كانت فرصة لتدريب الشباب على أساسيات الحوار وأهمية فهم المُختَلَف معه، وفسح مساحة الاستماع الضرورية لتحديد موطن الخلاف، قبل الجزم بالحكم على صاحب الرأي.

وفكرة الصالونات ظهرت في الوطن العربي قديماً وخاصة في القاهرة، تصدّر الشهرة فيها صالون مي زيادة، وجاذبيته لكبار مثقفي عهد النهضة المصري، والذي اكتسب هذا المسمى، من خلال حضور الجدل الفكري الواسع في مصر، وحوارات الأفكار التي تنازعتها الفكرة اللبرالية الغربية، أو الجذوة اليسارية، وشارك فيها إسلاميون.

وخلال هذه المرحلة، لم تكن دعوات النهضة منحصرة بتقليد المشروع الغربي المطلق، في الحياة المدنية والسياسية والتقدم العلمي، ولكن حتى دعوة البعث الكبير لمدرسة الإحيائيين الإسلاميين في مصر، والتي كانت تُصّر على أن الإسلام فاعل ثقافي وفلسفي وأخلاقي مستقل، يفي بشروط التقدم، كانت تجتذب عدداً من كبار مثقفي عهد النهضة.

ولذلك فإن مراجعة ذلك السجل والتاريخ بصورة مستقلة، عن النزاع الأيديولوجي الشرس، الذي حكم على ذلك العهد قد يعطي مؤشرات مختلفة، في موقف جيل النهضة في مصر، من دعوة السيد جمال الدين الأفغاني، وشريكه الإمام محمد عبده، ثم احتشاد ثوار الشرق والنهضة معاً، حول العروة الوثقى التي مثلت البيان العام لسؤال الشرق الكبير في النهضة وأين طريقها، ولقد تناوله رواد مجلس «أسمار وأفكار»، عبر علاقة مالك بن نبي بالبعث الإصلاحي، وهو ما تكرر في كتابه شروط النهضة.

ولقد صُدّرت صورة الإمام محمد عبده في متحف كوالالمبور الوطني، عند عرض انبعاث حركة التعليم والصحافة المطالبة بالاستقلال، فهل كان الإمام في ماليزيا مهاجراً بين صفوف الحركة الوطنية المالاوية، التي قادت مطالب ومفاوضات الاستقلال؟

لم يكن هناك بالطبع، ولكن القضية هنا هي أن فكر الإصلاحيين، بقيادة العروة والوثقى، مثّل ذلك الدمج الروحي والقيمي، مع آمال النهضة الفكرية للشرق، والتي كانت حركة الكفاح فيها، تجمع بين الحق السياسي المسحوق في الشرق في حينها، بيد الدولة العثمانية، أو بيد النظام الاستعماري، وكانت تخاطب وجدان المثقف الثائر في سبيل حرية بلده، والكفاح للحصول على فرصة التعليم والمعرفة، التي حُجبت عن الشرق بأيدي سلاطينه.

ولقد حَضَرت قضية الإحيائيين الإسلاميين، في هذه المحاضرة المهمة للدكتور بدران بن الحسن، الباحث الأكاديمي المقيم في قطر، وفي تعليقات رواد المجلس، التي طرحت أسئلة مهمة عن قصة مالك بن نبي، وتأثيرات التجاذبات الفكرية والسياسية، في رحلة حياته وفي مشروعه الكبير، لطرح أسئلة النهضة وتحليل قصتها في الشرق، والتي عرض في مقدمتها د. بدران بعض تجاذبات المشهد، والقوى الفكرية المؤثرة في حياة مالك بن نبي، وثنائية جمعية العلماء بقيادة الشيخ بن باديس بين المقاومة وفكرة الإصلاح، واتحادها مع دعوة الإصلاح الإحيائية الكبرى، للعروة الوثقى.

إن هذه الزاوية في حديث مالك بن نبي، من خلال شهادته التي كان يداخل بها بين أفكاره، وإن احتاجت إلى توقف وتمحيص، كون مالك بن نبي تعلوه حدة واضحة في بعض سلوكه الخطابي برزت في محاضراته المصورة، وأشار د. بدران الحسن لها في محاضرته حيث كان مالك بن نبي ينتقد بشدة وقسوة جمعية العلماء رغم محبته الكبيرة لهم، ويضع مصطلح العلماء بن قوسين، وكذلك الزعماء، ولقد انتقد السيد جمال الدين الأفغاني، في بعض رؤاه، رغم كل اعجابه الكبير في محاضرة تلت صدور كتبه رحمه الله.

غير أننا بعد فرز هذه المشاعر، والتي قد لا تُفهم من خلال أدوات اللغة الناقدة لمالك بن نبي، وحديثه العفوي في المحاضرات، لكنها قد تُعبّر عن حرصه على تجريد أفكاره، وبوابة لنقده أيضاً.

وللحديث بقية.

copy short url   نسخ
05/11/2023
125