كانوا يقولون: عَشْر في عشرة هي فيهم أقبح منها في غيرهم.
الضيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القضاة، والغضب في ذوي الألباب، والسفاهة في الكهول، والمرض في الأطباء، والاستهزاء في أهل البؤس والفخر في أهل الفاقة، والشح في الأغنياء.
وما أريد الحديث عنه هو آخر هذه الصفات «الشح في الأغنياء» ولا أريد أن أذهب بعيداً، بل سأتناول حالة قريبة مني، وهي لرجل وهبه الله من فضله مالاً وفيراً، فأقام القصور، والمزارع، وعين الخدم والحشم، واشترى أفخر السيارات، والده كان ثرياً، لكنه ورث عنه «الشح».
أنجب الولد ولدين، أدخلهما في أحسن المدارس وحين تخرجا، قال لهما: عندما أموت سترثانني، أما في حياتي فلا تفكرا في أن أقدم لكما درهماً واحداً.. فانصرفا يعملان وفي جيناتهما «الشح».
دخلت إلى مطعم، فوجدت صاحبنا يجلس على طاولة وقد أخليت من جميع «الكراسي» حتى لا يجلس أحد إلى جانبه، فحملت كرسياً ووضعته على الطاولة قبالته فرحب بي، فأشهرت كتاب «البخلاء» للجاحظ وبدأت أقرأ حكايات الشح «الجاحظية» فقال الرجل لقد طلبت لك ماعون حمص، ولكن ليحاسب كل منا عن نفسه.. وبدأ يتلكأ في تناول طعامه، فانتهيت قبله، ونهضت لأحاسب عن الاثنين، لحق بي وقال: شكراً، لكن لا تضع في حسبانك إن التقينا مرة أخرى أن أدفع عنك.. تركته وانصرفت!
مضت السنون، والتقيت به ذاهباً إلى سوق الأسهم، وكنت ادخرت بعض الأموال، أردت المضاربة بها في البورصة، ومعروف عن الرجل أنه خبير في التعامل مع البورصة، فطلبت منه ارشادي فقال: لم يعلمني أحد، ولست مستعداً أن أقدم خدمة مجاناً.. كان يملك عشرات الملايين من الدولارات، ولم أكن أملك عشرة واحدة من الآلاف. فقدمت له المبالغ ليتاجر لي «بالمضاربة» على أن أتحمل الربح والخسارة، فاشترى بها أسهماً هو يعرف الا جدوى منها.. وعندما خسرت في صفقة بيع نفذها هو، قال لي: لا تعتمد الا على نفسك.. لتعلم لو أنني كسبت من هذه الصفقة فسوف يعز عليّ أن أخرج المال بيدي وإن كان حقاً لك، لأسلمك إياه.. هكذا أنا.
هذا الرجل الغني الشحيح الذي تجاوز الستين، أصيب بجلطة قلبية، فلم يجد أحداً يعوده، حتى اعز الناس اليه وهم ابناؤه، وحين شفي من مرضه لم يتعظ بل ازداد قساوة في الشح، هرب من بيته الخدم لأنه كان يمنع عنهم الأجرة قائلاً: انكم تأكلون وتنامون، وهذه اجرتكم، هجرته زوجته لأنه كان يحصي وجبات الطعام التي تتناولها. عاش آخر عمره وحيداً.. ولولا حنو ابنته الصغرى عليه لمات دون أن يعلم به أحد.
والشح في الأغنياء هو أقبح صفة، ومن ابتلي بها فلا خير له في الدنيا ولا في الآخرة.. لكن الاغنياء هؤلاء يقولون، لولا الشح لما اصبحنا أغنياء، فترسخ الشح في قلوبهم وعقولهم، فشاحت الناس عنهم وشاخوا وشاحوا وساحوا.. وهم إلى جهنم حطبا.. فلا زكاة، ولا حج، ولا جهاد، ويشحون في الوضوء، ولا يسبغونه، وان قاموا للصلاة قاموا متثاقلين.. فالشح وكما قال القائلون يتساوى في وزره مع الكذب والغدر، والسفاهة والاستهزاء.. وهؤلاء لم يقرأوا قوله سبحانه وتعالى «ومما رزقناهم ينفقون» فلم ينفقوا ولم يؤجروا فباتوا من أصحاب القبائح العشر.. أعاذنا الله جميعاً منها.
وسلامتكم.
بقلم : سمير البرغوثي
الضيق في الملوك، والغدر في ذوي الأحساب، والحاجة في العلماء، والكذب في القضاة، والغضب في ذوي الألباب، والسفاهة في الكهول، والمرض في الأطباء، والاستهزاء في أهل البؤس والفخر في أهل الفاقة، والشح في الأغنياء.
وما أريد الحديث عنه هو آخر هذه الصفات «الشح في الأغنياء» ولا أريد أن أذهب بعيداً، بل سأتناول حالة قريبة مني، وهي لرجل وهبه الله من فضله مالاً وفيراً، فأقام القصور، والمزارع، وعين الخدم والحشم، واشترى أفخر السيارات، والده كان ثرياً، لكنه ورث عنه «الشح».
أنجب الولد ولدين، أدخلهما في أحسن المدارس وحين تخرجا، قال لهما: عندما أموت سترثانني، أما في حياتي فلا تفكرا في أن أقدم لكما درهماً واحداً.. فانصرفا يعملان وفي جيناتهما «الشح».
دخلت إلى مطعم، فوجدت صاحبنا يجلس على طاولة وقد أخليت من جميع «الكراسي» حتى لا يجلس أحد إلى جانبه، فحملت كرسياً ووضعته على الطاولة قبالته فرحب بي، فأشهرت كتاب «البخلاء» للجاحظ وبدأت أقرأ حكايات الشح «الجاحظية» فقال الرجل لقد طلبت لك ماعون حمص، ولكن ليحاسب كل منا عن نفسه.. وبدأ يتلكأ في تناول طعامه، فانتهيت قبله، ونهضت لأحاسب عن الاثنين، لحق بي وقال: شكراً، لكن لا تضع في حسبانك إن التقينا مرة أخرى أن أدفع عنك.. تركته وانصرفت!
مضت السنون، والتقيت به ذاهباً إلى سوق الأسهم، وكنت ادخرت بعض الأموال، أردت المضاربة بها في البورصة، ومعروف عن الرجل أنه خبير في التعامل مع البورصة، فطلبت منه ارشادي فقال: لم يعلمني أحد، ولست مستعداً أن أقدم خدمة مجاناً.. كان يملك عشرات الملايين من الدولارات، ولم أكن أملك عشرة واحدة من الآلاف. فقدمت له المبالغ ليتاجر لي «بالمضاربة» على أن أتحمل الربح والخسارة، فاشترى بها أسهماً هو يعرف الا جدوى منها.. وعندما خسرت في صفقة بيع نفذها هو، قال لي: لا تعتمد الا على نفسك.. لتعلم لو أنني كسبت من هذه الصفقة فسوف يعز عليّ أن أخرج المال بيدي وإن كان حقاً لك، لأسلمك إياه.. هكذا أنا.
هذا الرجل الغني الشحيح الذي تجاوز الستين، أصيب بجلطة قلبية، فلم يجد أحداً يعوده، حتى اعز الناس اليه وهم ابناؤه، وحين شفي من مرضه لم يتعظ بل ازداد قساوة في الشح، هرب من بيته الخدم لأنه كان يمنع عنهم الأجرة قائلاً: انكم تأكلون وتنامون، وهذه اجرتكم، هجرته زوجته لأنه كان يحصي وجبات الطعام التي تتناولها. عاش آخر عمره وحيداً.. ولولا حنو ابنته الصغرى عليه لمات دون أن يعلم به أحد.
والشح في الأغنياء هو أقبح صفة، ومن ابتلي بها فلا خير له في الدنيا ولا في الآخرة.. لكن الاغنياء هؤلاء يقولون، لولا الشح لما اصبحنا أغنياء، فترسخ الشح في قلوبهم وعقولهم، فشاحت الناس عنهم وشاخوا وشاحوا وساحوا.. وهم إلى جهنم حطبا.. فلا زكاة، ولا حج، ولا جهاد، ويشحون في الوضوء، ولا يسبغونه، وان قاموا للصلاة قاموا متثاقلين.. فالشح وكما قال القائلون يتساوى في وزره مع الكذب والغدر، والسفاهة والاستهزاء.. وهؤلاء لم يقرأوا قوله سبحانه وتعالى «ومما رزقناهم ينفقون» فلم ينفقوا ولم يؤجروا فباتوا من أصحاب القبائح العشر.. أعاذنا الله جميعاً منها.
وسلامتكم.
بقلم : سمير البرغوثي