إن فهم الحياة الاجتماعية وتأثيرات الواقع الفكري، والذي قد يكون واجهه المفكر في حياته الشخصية، أو عبر جدله الفلسفي بين الشرق والغرب، وواقع الانتكاسات الكبرى، التي تعرض لها حاضر العالم المسلم، منذ ذلك الزمن حتى اليوم، مهم جداً لفهم مركزية فلسفة مالك بن نبي، وهل تغيرت في أصل رؤيتها وتحليلها، أم في مشروع تنزيلها على واقع المسلمين، والذي يأخذ اهتمام هذا المفكر، فيندفع نحو تشجيع وسائط عملية لمشروعه، يتقدم لها هذا التحالف السياسي المشرقي أو الجنوبي، الذي يحاصره البغي الغربي، فيتراءى له أمر مختلف، عما أمله في هذه المشاريع قبل تنزيلها على الواقع.
وقد يكون ذلك أيضاً محطة لمراجعة رؤاه، لنعود من جديد إلى سؤال الاستئناف الذي نحتاج المضي فيه اليوم، لاستثمار أصول النهوض، ثم نقده والبناء عليه وليس الوقوف عند أطلاله.
ولذلك فنحن اليوم عندما نراجع مكتبة شخصيات النهضة، في رحلة الشرق الأخيرة، نحتاج أن نتأمل بعناية، قصة ميلاد فكرهم وظروفها، وأصل مبادئهم أو تحريرات فلسفتهم، في قراءة فكرة الإسلام في الدور الذاتي لنهضة إنسان الشرق، ومنها ثلاثية مالك بن نبي، (الإنسان والزمن والتراب)، وكيف يعاد دمجها في مجمل أفكار النهضة، وفي عجلة مشروعه، وأين أخفقت تلك التصورات في حياته العملية.
فلقد سعى في محاولاته للخروج إلى أفق النهضة إلى استدعاء الواقع، ولكن بعض التجارب التي استهوته وشارك في دعمها، وخاصة المشاريع القومية العربية والأفريقية، زمن العهد اليساري، أحبطت آماله، ومن المهم التذكير بالمعلومة التي نقلها د. بدران بن الحسن، من أن مالك بن نبي قد كتب ملحوظة لتنشر عند طبع مشكلات النهضة، وهي أنه (قد يذكر أسماء في الكتاب لا يجوز أن تربط بأفكاره).
وهو احتياط رائع منه، لتبدل مواقف تلك المشاريع وأصحابها، فتؤثر على نظريات فلسفته حين تربط بهم، وهذه قضية مهمة تقع بالفعل في تجارب المفكر، غير أن هذه العبارة أُزيلت من طبعات لاحقة، ربما مراعاة لوضعه وتقلبه في الظروف السياسية، والإحباط الأخير الذي وجد مرارته القصوى قبل وفاته رحمه الله.
هذا الإحباط الذي وثّقه أحد تلامذته المقربين في الجزائر، والذي عاصر اللحظة الأخيرة لتضييق سلطة هواري أبو مدين عليه، تزامنت كما يُفهم من سياق رحلته، بأن مالك بن نبي وإن وجد محطات في الشام وغيرها، لطرح أفكاره ومحاضراته، لكنه كان يتألم لمحدودية انتشار دعوته في آخر عمره، هذا الأمر يذكرنا بدور، الأفكار الإسلامية الأخرى، أو النظم السياسية في قمع تلك الروح لرواد النهضة، وخاصة حين نستدعي واقع اليوم.
هذا الأمر يبرز من خلال أن سؤال النهضة في ذلك الزمن، وإن حوصر من جهات سياسية شرقية ودول غربية، فقد كان غضاً في أحلام الشباب، وفي آمالهم، أما من حيث تفاعلات الفكر والتجارب والقراءات، فإن مدار البحث النهضوي، انتشر في أقطاع واسعة من الوطن العربي، ولكن ماكينة الحصار والتطويق لقوة الاستقلال ظلت تطارده، توظيفاً أو قمعاً، والتوظيف هنا أسوأ، حيث يتحول داعية الفكر الإسلامي، إلى طبل أو زمرٍ صاخب يُزكّي بالمطلق وبكل تعصب هذه التجربة وتلك، لتأمين تـدفق مصالحه الذاتية والمادية.
أما البعد الآخر فهو أن تلك المساهمات العظيمة، تمثل رافداً واحداً من الروافد، وليست كل الطاحونة التي يؤمّل الشرق في قيامها، لتحقيق مقاصد الرسالة في عمران الأرض، وهي تقتضي كما أسلفنا نقداً ونقاشاً لمنظومة أفكار مالك بن نبي وغيره، وهنا يبرز لنا تحرير السؤال الجميل الذي طُرح في صالون أسمار وأفكار، وهو ماذا تبقى من مالك بن نبي، ونقول تبقى الكثير وبقي الكثير غيره أيضاً.
ومن المهم أن أشير إلى ما أثاره أ. أحمد فال ودلائله تتدفق في كتاب شروط النهضة، وهو دور التفاعل مع تجربة الحضارة الغربية، بغض النظر عن الموقف منها، ومن جانبها السلبي، وجوهر تاريخها الصراعي مع إنسان الشرق.
فتفاعل مالك بن نبي أتى في سياق التحريك الحيوي، والبحث عن سر قوة العمران فيها، لمصلحة حق الإنسان في كرامته وفي ضميره، ودوره في تحريك الزمن نحو صناعة الأرض لدولة قوية، يحج لها الجنوبيون اليوم، والفارق الكبير الذي تصنعه الفلسفة الإسلامية، ثم ما يُبنى عليها من شروط النهضة، لكونها أخلاقية روحية، وكما يقول مالك بن نبي، بأن سرها الفارق مع الغرب، أنها تضبط الغرائز بحقائق الشرائع الإلهية التي فطرتها.
مهنا الحبيل باحث عربي مستقل رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية