طغى الكيان الإسرائيلي واستكبر واستهتر بكل القيم والقواعد والاتفاقيات الدولية والقيم الأخلاقية والإنسانية، وأمعن في اعتدائه الوحشي على الأبرياء والمدنيين في غزة، باستهدافه الأعيان الطبية والخدمية، وإجباره الأهالي على النزوح من بيوتهم تحت تهديد القصف الإجرامي الذي لا يميز بين أطفال وكبار سن.. ولا يبقي من هو في محيطه دون أن يوقعه شهيداً أو مصاباً.
ووصلت النزعة الدموية والحرب العدوانية لدى قوات الاحتلال إلى مستوى غير مسبوق عبر التاريخ، إذ تمادت في اعتدائها السافر وتعسفها في استخدام القوة، وذلك عبر استهداف المستشفيات وتحويلها إلى مقابر، وهذا ما لا يقبله ضمير، ولا تقره أخلاق أو تشريع..
وبالأمس فقط.. تحول الأطباء والممرضون والعاملون في مجمع الشفاء الطبي في غزة إلى «حفارين للقبور»، من أجل دفن «100» جثمان لشهداء لفظوا أنفاسهم الأخيرة في المستشفى، بينما يواجه «39» من الأطفال الخدج في قسم العناية المركزة بهذا المشفى الموت في أي لحظة، جراء انقطاع الأكسجين، بسبب القصف الجوي والمدفعي الوحشي والكثيف الذي يتعرض له، في جريمة حرب وإبادة جماعية لم نشهد لها مثيلا.
على وقع هذا المشهد المؤلم، انعقدت القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية بالرياض، وعلى وقع هذه التطورات المؤلمة والمرعبة، خاطب حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، المشاركين في هذه القمة، والعالم بأسره، ليضع الجميع أمام مسؤولياتهم التاريخية حيال جريمة العصر، التي تتوالى فصولها في مساحة من الأرض لا تزيد على «365» كيلو مترا مربعا، يقطنها «2.2» مليون فلسطيني، بمتوسط «6.027» نسمة لكل كيلومتر مربع، الأمر الذي يضعنا أمام حجم الكارثة في كل مرة يتم فيها قصف القطاع، برا وبحرا وجوا، بالقنابل والصواريخ والأسلحة الفوسفورية المحرمة، وهي عملية متواصلة منذ «36» يوما، وعلى مدار الساعة، دون أدنى اعتبار لحياة المدنيين على الإطلاق، في مخالفة صريحة لكل الأعراف والمواثيق والقوانين الإنسانية والأخلاقية، وأبرزها اتفاقيات جنيف.
لقد أدت مأساة الحرب العالمية الثانية بشكل حاسم إلى اتخاذ قرار صياغة اتفاقيات جنيف لعام «1949»، حيث سعت الاتفاقيات إلى سد ثغرات في القانون الدولي الإنساني كشفها النزاع، فيما يتعلق بموضوع النهوض بحماية ضحايا الحرب، خاصة المدنيين، وتُؤرخ اتفاقيات جنيف الأربع بيوم «12» أغسطس/آب «1949»، لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان، وغرقى القوات المسلحة في البحار، واتفاقية بشأن معاملة أسرى الحرب، وأخرى بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب.
وعلى الرغم من ذلك، رأينا الاتفاقية تواجه اختبارا غير مسبوق، بعد أكثر من «70» عاما على اعتمادها، عبر تجاهل بنودها وموادها، من جانب الاحتلال الإسرائيلي، بينما العالم يقف متفرجا، بل داعما ومبررا لجريمة من أكبر جرائم العصر وأكثرها فتكا.
من هنا، فإن ما قاله صاحب السمو حول «فشل المجتمع الدولي في تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية، واتخاذ ما من شأنه إيقاف جرائم الحرب والمجازر المرتكبة باسم الدفاع عن النفس، ووضع حد لهذه الحرب العدوانية»، يعبر بدقة عن تجاوز ما تم الاتفاق عليه دولياً، واختراقه، دون اكتراث بعواقبه، وسط صمت مطبق من القوى الكبرى ومجلس الأمن، وتجاهل لما يحدث من جرائم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
صور الأطفال القتلى، وأنين الجرحى منهم، هزت كل ضمير، ولم تكن بحاجة لاتفاقيات من أجل التأكيد على كونها جرائم حرب، ومع ذلك، فهناك من غض البصر منها، وأشاح بوجهه عنها، والديمقراطيات الغربية التي لطالما رفعت شعارات حقوق الإنسان، والحيوان، رأيناها تغمض العين عن دماء هؤلاء الأطفال، وتدعو- فحسب- إلى «التخفيف» من استهداف المدنيين، وهو تعبير فج وموقف متخاذل، ويتماهى مع وحشية جرائم الاحتلال الهمجية.
الحكومات الغربية رأيناها أيضا تتجاهل الذين أوصلوها إلى الحكم، والمظاهرات الحاشدة التي شهدتها لندن وبرلين وبروكسل ومرسيليا، وعواصم ومدن غربية أخرى، أمس، مثال صارخ على تغليب المصالح، والاستهتار بالمبادئ.
التساؤل الذي عبر عنه سمو أمير البلاد المفدى يجب أن يستوقف الجميع، وأن يحرك ضمائر الذين ما زالوا عاجزين عن رؤية الحقائق، أو أنهم اختاروا تجاهلها، فـ«كيف أصبح قصف المستشفيات أمرا عاديا يتم إنكاره واتهام الضحايا بداية؟ ثم يبرر بوجود أنفاق تحتها؟ ثم يصبح أمرا لا حاجة لتبريره بعد تبلد المشاعر وتعود الأعين على مشاهدة المآسي؟!».. ليخلص سموه إلى أن هذه «أمور غير مسبوقة، وجدنا في هذه الحرب أو قبل هذه الحرب، أثناء حصار غزة، ارتفاعا ملحوظا في معدلات المناعة لدى بعض الدول التي تدعي حماية القانون الدولي والنظام العالمي، حيث رأينا مناعتهم تجاه مناظر القتل العشوائي للمدنيين الفلسطينيين، سواء كانوا أطفالا أو نساء، وكذلك قصف المستشفيات والملاجئ أصبح لا يؤثر فيهم، ووصلت معدلات المناعة لديهم إلى رؤية جثث الأبرياء وهي تنهشها الكلاب دون أن تحرك لهم ساكنا..
سبحان الله.. قوة المناعة فقط على أشقائنا الفلسطينيين».
لقد أوضح صاحب السمو أن «النظام الدولي يخذل نفسه قبل أن يخذلنا حين يسمح بتبريرها، من كان يتخيل أن المستشفيات سوف تقصف علنا في القرن الحادي والعشرين، وأن عائلات بأكملها ستمسح من السجلات بالقصف العشوائي لأحياء سكنية ومخيمات لاجئين، وأن شعبا بأكمله سيجبر على النزوح قسريا بوجود مخططات مستنكرة ومرفوضة لتهجيره، وكل ذلك على مرأى ومسمع من العالم. ويرافق ذلك تصريحات عنصرية سافرة لقادة إسرائيليين لا يستنكرها قادة الدول الحليفة لهم».
لقد نقل سمو الأمير، ببلاغة وأمانة، صورة لما يحدث في غزة، من حرب إبادة، وهو المصطلح الذي ظهر في الحرب العالمية الثانية لوصف الفظائع التي ارتكبت، ومن هنا جاء الاعتراف بالإبادة الجماعية كجريمة بموجب القانون الدولي.
ما يحدث في غزة فاق ما وصفته الأمم المتحدة، وكان أشد بشاعة من كل الجرائم التي أدت إلى الاتفاقية المتعلقة بها، ومع ذلك يصمت العالم أمام الإبادة الجماعية التي تشهدها غزة، وكأنها استثناء من كل القواعد الأممية.
ولم يكتف صاحب السمو في كلمته الهامة والتاريخية أمام القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية بالرياض، بتوصيف المذبحة التي تحدث، وإنما أكد بوضوح شديد أن دولة قطر ثابتة في موقفها التاريخي الداعم لصمود الشعب الفلسطيني الشقيق، وقضيته العادلة، وسوف تستمر مع شركائها في المنطقة والمجتمع الدولي في تقديم العون الإنساني، والعمل على سرعة وصوله إلى محتاجيه، مع التعنت الإسرائيلي المستمر في إعاقته، والمطالبة بفتح المعابر الإنسانية الآمنة بشكل دائم، لإيصال المساعدات للمتضررين والمنكوبين دون أي عوائق أو شروط، مع رفضها القاطع استخدام التعسف في إتاحة المساعدات الإنسانية، والتهديد بقصفها كوسيلة للضغط والابتزاز السياسي، وشدد سموه، في هذا الإطار، على ضرورة وصول هذه المساعدات لكافة أنحاء قطاع غزة، مؤكدا أن ذلك كله «أضعف الإيمان، وأقل ما يمكننا جميعا عمله».
أيضا أكد سموه، حفظه الله، على قضية في غاية الأهمية، تتعلق بضرورة اتخاذ خطوات رادعة لوقف جريمة الحرب المتواصلة، وعدم الاكتفاء ببيانات الشجب والاستنكار، بحيث تظهر الدول الإسلامية أيضا ثقلها ووزنها، محذرا من أن «مواصلة إسرائيل عدوانها، وارتكاب جرائم الإبادة بهذا الاستهتار لا يلحق الضرر بالأمن القومي العربي والإسلامي فحسب، بل أيضا بالأمن الوطني لدولنا».
لقد دعت قطر، مرارا وتكرارا، إلى إرساء سلام عادل من شأنه وحده وضع حد لهذه الممارسات الإجرامية، وفي هذا الصدد، أعاد صاحب السمو التذكير بأن السياسات الاستعمارية الإسرائيلية هي التي أفشلت جميع مبادرات السلام، وحتى الاتفاقيات، وقادت إلى جميع هذه الأزمات، ليختم بإشارة في غاية الأهمية؛ وهي أن عدم إلزام المجتمع الدولي لإسرائيل بوقف الجريمة الجارية الآن هو رخصة للإمعان في هذا النهج الكارثي.
خطاب صاحب السمو عبر بأمانة وشجاعة عن كل ما يعتمل في صدور العرب، وجميع محبي السلام في العالم، وهو لم يكتف بالتحذير من عواقب ما يحدث، بل طالب بخطوات عملية، عبر اتخاذ موقف حازم من هذه الجريمة، والأمل معقود بأن لا تذهب دماء الضحايا من الأطفال والنساء في غزة هدرا، وأن تكون المنطلق لبداية إعادة الحقوق المشروعة لهذا الشعب الشقيق، في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى جهود مكثفة وطويلة لا تتوقف، إلا بتحقيق هذا الهدف السامي لأطول النزاعات، وأكثرها دموية في تاريخ الإنسانية.
آخرنقطة..
تعودنا، في خطابات صاحب السمو، على الثبات في المبادئ، والصراحة والجرأة في الطرح، والدرجة العالية من الشفافية والمكاشفة.. وفي قضية فلسطين لم تتبدل مواقف قطر، فمازالت تعتبرها القضية المركزية للعرب والمسلمين.. ويعبر سموه عن ما يدور في خواطر الكثيرين، فهو يناصر العدالة..
ويدعم السلام الدائم..
ولا يخشى في الحق لومة لائم.
محمد حمد المري - رئيس التحرير المسؤول