ربما نختلف في أشياء كثيرة ومفاهيم عديدة، لكن ما يتفق عليه معظمنا أن الغاية الكبرى من وجود الإنسان على الأرض هي إعمارها، وهو ما نجحنا فيه نسبيّاً على امتداد العقود الماضية، حيث انتقلنا من العيش في الصحارى والجبال والغابات إلى تشييد الحضارات وبناء المدن، ووصلنا إلى تقدم تكنولوجي مهول، وحققنا قفزات علمية عظيمة وصلت بنا إلى مشارف أكثر الكواكب والنجوم بعداً عن كوكبنا الأخضر، رغم ما جلبناه في الوقت ذاته من آفات إلى حياتنا بفعل استنزاف الموارد الطبيعة والصراع المتجدد فيما بين قوى التدمير وقوى التعمير.
إن الحياة البشرية مليئة بالمتناقضات، بل هو الكون بأسره الذي فيه الشيء ونقيضه، كالنور والعتمة، والجمال والقبح، والرحمة والقسوة. فلا غرابة إذن أن يكون الإنسان ابن هذا العالم تتصارع في داخله قوى متباينة، فترى الشخص الطيب في مقابل الشخص اللئيم، والإنسان المكافح إلى جانب الإنسان المتكاسل، والمتفائل الذي يجد حلّاً في كل مشكلة والمتشائم الذي يجد مشكلة في كل حل.
لكن الفرق بين العالم الخارجي والعالم الداخلي، هو أن بوسع الإنسان التحكم في ذاته بينما لا يستطيع أن يسيّر الظروف الخارجية وما يحدث حوله كما يشاء في كثير من الأحيان. ما يعني أن الخير أو الشر هما قراران ذاتيان، وكذلك التفاؤل والتشاؤم. ففي حين يبدو الشخص المتفائل كأنه ولد على هذه الشاكلة ونفس الشيء بالنسبة للشخص المتشائم، إلا أن الحقيقة هي أن الإيجابية تنبع من باطن المرء كقرار ذاتي محص، مثلها مثل السلبية تماماً.
يظن كثير من الأشخاص أنه لا يد لهم فيما يفكرون فيه ويشعرون به، وأنهم أسرى لطباعهم وتركيبتهم البيولوجية، لكن الواقع هو أن نظرتك تجاه الحياة هي مسؤوليتك، وبوسعك أن تنظر إلى النصف الممتلئ من الكأس أو تركز على النصف الفارغ بمجرد أن تقرر ذلك. لهذا نسمع ونقرأ كثيراً من القصص التي تروي لنا حياة أشخاص استطاعوا تغيير أفكارهم وطريقة نظرتهم إلى الأشياء من حولهم، فتحولوا من أناسٍ دائمي الشكوى والتذمر إلى أناسٍ إيجابيين متفائلين.
وإذا دققت قليلاً في تاريخ البشرية، فستستنتج أن أصحاب الشخصيات الإيجابية هم أكثر من حققوا إنجازات عظيمة ورفدوا العالم بإسهامات جليلة، لأن التفاؤل وقود يحرك الطاقات الدفينة في الإنسان، في حين أن التشاؤم يسلب المرءَ القدرة على العمل والكفاح والصبر عند الشدائد.
انظر حولك جيداً، فكل فكرة جميلة أصبحت اليوم واقعاً ملموساً، لــم يُكتب لها النجاح ولم ترَ النور إلا لأن شخصاً حالماً متفائلاً فكر وكافح على طول الطريق واستبشر خيراً إلى أن تحقق له ما يريد. وانظر بتمعن أكبر فستدرك أن كثيراً من الصراعات والحروب والدمار الذي شهدناه على مر التاريخ كان سببه أشخاص فرّغوا الحياة من معناها، واعتبروها غير جديرة بالعيش فيها؛ لهذا يبررون لأنفسهم فعل أي شيء وتدمير كل شيء.
إن من يقضي يومه في لعن هذا العالم والناس والظروف المحيطة به، لا يمكن أن يكون أهلاً للتعمير ولصناعة مستقبل مشرق، والمساهمة في بناء الحضارة، والارتقاء بالأمة، لأن الظلمة لا تولّد النور، والقلب الفارغ لا يجلب السعادة، والعقل الذي تعشش فيه السوداوية لا يأتي بالأفكار العظيمة.
أما من يتطلع إلى الحياة بشغف عامر وأمل كبير، ويرى الخير في الآخرين من حوله، وينقّب عن الكنوز الدفينة في قلب المعاناة والتحديات الصعبة، مع التحلي بالتفاؤل الدائم والإيجابية المستمرة، فإنه الأجدر ببناء المجتمع، والإسهام في نهوض الأمة، وتعمير الحضارة، والارتقاء بالأجيال.