تعرضت المقاومة الفلسطينية لحروب خذلان ممنهجة منذ 1936 وحتى 1948، فالمركزية الاستعمارية الغربية، هي التي في الأصل ولّدت الدولة الصهيونية، ثم رعى المركز الكولونيالي، دورات الضغط المتتالية بعد 48، والتي كانت تنجز عبر مواقف بعض الأنظمة الرسمية العربية، وإخضاع المقاومة لمصالحها بين محوري واشنطن وموسكو، وواجهت منظمة التحرير هذه الموجات الشرسة، وحاولت كبحها، لكنها في نهاية الأمر تورطت في دورات وظيفية للأنظمة، دون أن تفقد تماسكها، كان الصمود يقوم على أضلاع كبرى من رجالات المنظمة وبالذات أبو إياد وأبو جهاد، ولذلك تصفيتهم كانت متطلباً دولياً ملحاً.وقد تزامن ذلك مع معركة المقاومة الشرسة، في مواجهة اجتياح لبنان 1982، الذي انتهى إلى انسحاب منظمة التحرير، وتصفية القوة العربية المقاومة، لصالح موازين صراع نسبية مع إيران، ضمنت فيها تل أبيب ورعاتها الدوليين تحييد المقاومة العربية من لبنان، بغض النظر عن الخطايا الكبيرة التي تورطت فيها منظمة التحرير الفلسطينية، أو الفصائل التي عبثت بها الأنظمة العربية، وحوّلت وجودها في بيروت، إلى مساحة لتصفية حساباتها وتعزيز نفوذها، في لبنان وفي ساحة المقاومة التي كانت تُستثمر لهذه الأنظمة.
وتحولت بعض الفصائل، كمشروع وظيفي كامل، كجناح أحمد جبريل (الجبهة الشعبية – القيادة العامة) كميليشيا لنظام الأسد وإيران، في حين مثل أبو نضال (فتح المجلس الثوري) جماعة عنف مؤجرة للأنظمة العربية، ونجحت تلك الضغوط والاختراقات للنظام الرسمي العربي، في خلق الجسر المطلوب لإعادة ترويض فتح (كقيادة سياسية وليس بالضرورة كقاعدة نضالية)، وتزامن خروج المنظمة مع مذابح الميلشيات المسيحية، ومذابح أخرى نُفذت عبر قوات الأسد في سوريا، ومن خلال عملائه.
نلاحظ هنا تزامن عمليات الإبادة مع مشاريع تصفية المقاومة، وهي إبادة أقل من مستوى هولوكوست غزة اليوم، لكنها متفقة السياق، فالإبادة في المشروع الغربي الصهيوني المزدوج، متطلبٌ رئيسي لمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي أخذ زخمه في الدورة الأخيرة للمنظومة الرسمية العربية.
واستطاعت واشنطن - منذ ذلك الحين- تحويل المنظمة عبر حركة فتح، لإطار سياسي خلقته الكولونيالية الغربية ذاتها، كسلطة عبور لتصفية القضية لا حل الدولتين المزعوم، وخالفت المنظمة منهج الزعيم الأفريقي الأممي نيلسون مانديلا، بأن لا يُتخلى عن السلاح قبل الاستقلال، فحدث فراغ ضخم راهنت تل أبيب والعالم الحداثي على استقراره، وأنه المقدمة الأخيرة لنهاية المقاومة.
لكن حماس ملأت بعدها الفراغ الضخم في سجل الكفاح، وكان مشروع الشيخ أحمد ياسين مختلفاً تماماً، ولذلك انفصل عن طبيعة تنظيمات الإخوان، وخلق من الحركة مشروعاً خارج إطار قدرة التوظيف المركزي، لكنه فتح مساحة مرونة وعبور واسعة لمشروعه، عبر التقاطعات الحرجة والشرسة للأنظمة العربية.
وعزل الشيخ الشهيد أحمد ياسين، والذي مثل في حياته مصطلح سيد المقاومة كحقيقة تاريخية، ضغوط الاستقطاب العنيفة على الحركة، وتجنب بحسم أي تحول أو خضوع لحسابات الأنظمة العربية المتصارعة، فنشأت الكتائب في ميدان، أكثر قوة ومُنح الجناح العسكري مساحة الصناعة التأهيلية للميدان، ولم تكن هناك حينها مساحة تذكر لإيران.
لكن النظام العربي الرسمي كدور وظيفي للاستعمار الغربي، ظل يدعم سحق حركة حماس بحكم أنها نموذج مقاوم، غير قابل للتطويع، طوال هذه الفترة، واستعادت فلسطين قوة مقاومة تخضع لقرارها، ومثّلت إرادتها خطراً نوعياً ومركزياً، يهدد الكيان الوظيفي ومصالح فلسفة الإبادة العليا، في إخضاع الشرق واستنزافه.
نجح النظام العربي الوظيفي في ربط حماس بإيران في خطابه الإعلامي والسياسي، وخاصة بعد أن شرع في الترويج للتطبيع مع الفكرة الصهيونية ذاتها، مستغلاً نجاح طهران في توظيف تصريحات واستقطاب شخصيات من حماس لعباءتها، وخروجها وخاصة بعد مرحلة خالد مشعل، من روح الاستقلال الحازمة للشيخ ياسين، وقع ذلك في ظل خنق تاريخي لحماس، تعزز بعد ضرب الثورة السورية من الداخل.
ولكن إيديولوجية مقاتلي حماس لم تتأثر، بأي ولاء عقدي أو سياسي لإيران، والتي أشرف عليها وعلى عقيدتها القتالية والفكرية، الجناح السلفي في الحركة بقيادة الشهيد نزار ريان وغيره.ورغم حجم الخطايا الكبرى، في بعض التصريحات المنخرطة في وهم جبهات المقاومة الإيرانية الموحدة، لكن حين جاءت لحظة المواجهة العليا، التي تتجاوز حسابات ومصالح إيران وتهدد المشروع الصهيوني وجودياً، تخلت إيران فوراً عن هذه الشراكة الموهومة.
وبالتالي عادت حماس في ظرف صعب وشرس وتاريخي، لتمثيل الكفاح الفلسطيني، كمقاومة مستقلة لإرادة الشعب، وهناك تبعات كبرى سوف تسفر عن هذه المرحلة، التي يراهن عليها المعسكر الامبريالي الدولي لترحيل المقاومة أو تصفيتها، قد ينجح في الصفحات الأولى، لكن خاتمة كتاب حرية فلسطين لم توقع بعد.
مهنا الحبيل باحث عربي مستقل رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية