كان تطابق المُثل العُليا والقيم، هو الدافع الحيوي المنتفض دوماً في وجدان المسيري للالتحام بفلسفة بيغوفيتش، تلك الفلسفة التي رآها المسيري تختصر تاريخ الجدل الكوني، بين أكبر وأهم مدرستين فلسفيتين حددتا مصير العالم الحديث بالفعل، وكان المشترك بينها في الفلسفة الماركسية الشيوعية، وبين الفلسفة الليبرالية الإلحادية، هو إسقاط الروح كسبيل وحيد لتنحية الله من هذا العالم، ورغم أن الجانب الآخر لقضية كتاب بيغوفيتش المقابلة للماركسية، هو الروحية المسيحية المنفصلة عن حياة المجتمعات، إلا أن المسيري رأى أن بيغوفيتش فكك أدوات ومفاهيم فلسفة الإنسان المادي الليبرالية أيضاً.

وفهم هذا الاشتباك سهل على الباحث الفلسفي، إذ أن العمق المشترك واحد في كلتا الفكرتين، وإن وُجدت اختلافات بينهما، في سياق تقديم المشروع النموذج للإنسان المادي، الذي طَرح جانباً حضور الدين واستأصله من عالم المعرفة في النموذج الغربي، وأسقطه منذ دلالة نزعة وجوده البشري.

وهو مشترك صلب بين الماركسية والليبرالية الغربية، في ثوبهما الديالكتيكي الإلحادي المطلق، وقد تطرأ عليه مفاهيم تهذيب ومراجعات، لكنها تعود إلى نقطة الصفر في البيان الشيوعي والليبرالي معاً: لا روح في هذا الوجود، ويجب أن يُفهم التخلّق الإنساني وفقاً للعدمية المطلقة.

ونحتاج التعقيب هنا على مقولة عبد الوهاب المسيري، التي يرددها بعض الباحثين نقلاً عنه، وهي أنه لو كان قد اطلع على كتاب الإسلام بين الشرق والغرب، لاكتفى به عن كثير من مؤلفاته، فهذه العبارة غير دقيقة حتى لو نطقها المسيري، فهذا التطابق في مركزية الروح بين بيغوفيتش والمسيري، لا يُلغي العالم الضخم الذي أنجره المسيري، في تفكيك الرواية الغربية للتاريخ وتفنيدها، ثم فضح صناعة عقيدة التفوق الإبادي، فهذه منظومة محكمة قوية الفكرة والدلالة لسجل المسيري.

ومسيرة المسيري وإن اقترنت بهدم الأصول المؤسِسة للصهيونية، وخارطة توظيفها الضخم، في نظرية الإبادة الغربية، إلا أنها تجاوزت الفرع الوظيفي، إلى العمق الأصلي في النموذج الذاتي للغرب الحديث، وفي أدوار فلسفته، وانعكاساتها على رحلة تسليع الإنسان و(حوسلته)، وهي أحد المصطلحات المهمة لفلسفة المسيري - أي تحويل الكائن البشري إلى وسيلة مادية وظيفية.

أما الإلهام الآخر الذي استقطبه نحو بيغوفيتش، فهو مع كونه رئيساً للوطن البوسني الذي كان يُذبح في قاعدتي الغرب بين ما تبقى من إرث الاتحاد السوفياتي، وانفجر كمكنون ديني وحشي في حرب الأرثوذكس الصرب، على مسلمي البوسنة، وبين دور الغرب الليبرالي في تعزيز وقهر حجم الوجود المسلم، والضغط عليهم عبر القوة الكاثوليكية الكرواتية، والشراكة في تغطية المذابح الصربية، وإن بقيَ للغرب الأوروبي مساحة صراع جيوسياسي مع موسكو، فحرص في حينه على تحييد أي قوة حليف، لروسيا الجديدة في يوغسلافيا.

هذه المعادلة الصعبة وأتون الجحيم، جعلت المجاهد المتفلسف بيغوفتش، هو النموذج العالمي الأخلاقي الرائع، في منظور المسيري، الذي أثبت صحة فلسفته في حياته الذاتية وقيمه، وفي تسامحه مع كل المدنيين المسيحيين، وفي صموده المقاوم الصلب تحت عقيدته الروحية الإسلامية، فألهمت روح الفيلسوف المجاهد البوسني، الباحث العربي الحثيث منذ شباب دمنهور، عن النموذج المقابل لسقوط الحضارة المادية، وإذا به زعيماً وفيلسوفاً معاً.

ويحضرُ سؤال المسيري اليوم، في وجدان الشباب العربي في كل رحلته المهمة للغاية، في البحث عن الحقيقة والفضيلة المطلقة، بين إنسان الدين وإنسان الحداثة، هل هناك إنسان آخر؟

فهنا إنسان الدين، الذي لم يجد فيه المسيري جواباً شافياً، في فتوّته الشيوعية في مصر، فمع تصوره لأزمة الروحية المسيحية، فالدين أيضاً كان مرتبطاً ب (الإسلام) العاجز الذي يقدمه بعض اساتذته، جواباً على ثورة الشك في ضمير المسيري، كقاعدة تراثية تستدعي الإسلام، لكنها لا تمثله مطلقا، ولا تعكس الحقيقة التي أشرقت روح المسيري لها، واستوت على الجودي، وأعلنت بيانها الجوّاني مطلع الثمانيات، حسب تحديده هو شخصياً، وكانت فأس الحقيقة الفكرية، التي هوى بها بيغوفتش على صنم الحداثة، أحد إشراقات هذه الروح للمسيري. ولكنها لم تكن هي الوحيدة وهذا ما يلزم التنويه عنه، فتأملات المسيري لقولبة الإنسان الحادة، وتطورها الضخم منذ مغادرة أميركا لأول مرة ثم عودته لها، جعلته يشهد ميلاداً جديداً للثورة الرأسمالية ويتأمل فيها، رغم أن المسيري لم يكن منعزلاً عن ذلك السوق، ولا عن النموذج الغربي، بل تدل سيرته على أنه تداخل واقترن معه بقوة، وإن بقيت له روحه المنفصلة عن القناعة الأنموذجية التي يبحث عنها، فيتعايش مع (قيم) العالم الجديد مرة، ويعترض عليه مرةً أخرى ويكتب في سقوط نماذجه العديدة التي عاصرها.

وللحديث بقية

مهنا الحبيل باحث عربي مستقل رئيس المركز الكندي للاستشارات الفكرية