إذا امتلأ القلب بالإيمان وفاضَ على الجوارح صدر عنه مشهد مهيب يدعو إلى الدهشة!
في اللحظة التي كان فرعون يتبجح فيها قائلا للناس: أنا ربكم الأعلى، كانت زوجته تقول: سبحان ربي الأعلى! وتدعو الله تعالى أن يبني لها بيتا في الجنة وينجيها من فرعون وعمله! ثم شاء الله أن تفترق الخطى أخيرا، وتسقط آخر شعرة من شعرات المسايرة والتعايش، وتحولت المسألة إلى مواجهة صلب فيها فرعون زوجته آسيا بنت مزاحم! ولكن ما أثار دهشته قبل جنونه أنها كانت قبل أن تفارق روحها جسدها تبتسم!
هي بروحها العلوية لحظتذاك، وانكشاف حجب الغيب، كانت ترى البيت الذي بناه الله تعالى لها في الجنة، وهو بلوثة الكفر لم يكن بإمكانه أن يرى من المشهد أكثر مما تريه إياه عيناه! ثم مات على كفره دون أن يعثر على إجابة لسؤاله: كيف لامرأة ضعيفة رقيقة أن تبتسم وهي مصلوبة بدل أن تصرخ وتستجدي!
وحين أخرجت قريش خبيب بن عدي إلى شعاب مكة ليقتلوه، طلب منهم أن يصلي ركعتين أولا، ثم بعدها ليفعلوا ما شاؤوا!
لم يكن بمقدورهم وهم على الكفر لحظتذاك أن يفهموا كيف يمتلئ القلب بالسكينة وصاحبه على بعد ركعتين من الموت!
وعندما صلى وباشروا يتفننون بقتله، سألوه: أتحب أنك في أهلك ومحمد ﷺ مكانك؟
فقال لهم: ما أحب أني في أهلي والنبي ﷺ يشاك بشوكة!
تملكتهم الدهشة، ولم يفهموا وقتذاك معنى مقام النبوة في قلب المؤمن!
في الحرب على غزة وقفنا نحن مشدوهين لمشاهد الرضى والتسليم لله التي رأيناها في أهل غزة، هذا ونحن نؤمن بما يؤمنون، وليس خافيا علينا شيء من مسألة الإيمان بالله، والرضى عن قضائه وقدره، ولكن رؤية هذا الإيمان تنعكس سلوكا عند أهل مدينة بكاملها، كان مشهدا مثيرا للدهشة والإعجاب معا!
أما في الغرب فقد نزلت عليهم هذه المشاهد كالصواعق، قلبت نظرتهم إلى الحياة، ملأتهم بالأسئلة التي لم يعثروا لها على إجابات! من العسير في ظل الحضارة الرأسمالية، وسيطرة الماديات، وسعار إشباع الغرائز بشتى أنواعها، أن يفهم المرء كيف يمكن لإنسان أن يحمد الله وهو يحمل أشلاء أولاده، وكيف يردد عبارات الرضى وهو على ركام بيته وقد صار الآن مشردا بلا مأوى!
إن الإنسان مهما امتلأ بالمادية، يبقى فيه جوع إلى شيء روحاني، يمضي في حياته وهو لا يشعر بهذا الجوع، كل ما يشعر به شيء من عدم الطمأنينة، أو فقدان الغاية في الحياة، أو على أقل نتيجة عدم قدرته على فهم أي شيء غير مادي ونفعي، ولكنه عندما يواجه المشاهد الروحانية، يظهر أمام نفسه عاريا خاويا من إيمان، ويشعر بفداحة ما ينقصه!
غزة ضربت فيهم على وتر ينقصهم، فأخذوا يبحثون عن هذا الشيء الغريب الذي يجعل الناس لا يشبهون الناس الذين يعرفونهم! كثرت أسئلتهم، اشتروا المصاحف، استمعوا إلى الخطب، وأسلم منهم العشرات وهذا وجه من وجوه النور في غمرة هذه العتمة!
طبعا الذين أسلموا عددهم لا شيء مقارنة بالعدد الذي لم يراجع إيمانه من الأساس، ولكن مشهد ثبات غزة وصبرها وهي تُذبَح هزهم جميعا من الأعماق..
غزة لم تكن تحارب فقط.. غزة كانت تدعو إلى الله أيضا!