اللطف والكرم لا يحدث بشكل فطري. فالأطفال الصغار لا يودون التخلي عن أغراضهم الشخصية، وجميعنا نرغب بطبيعة الحال بالتمسك بما نحوزه، سواء كان الغرض المملوك مالاً أو شيئاً أو حتى وقتاً.
بالنسبة لغالبية الناس، يبدو أن الكرم والعطاء أمر مكتسب يتعلمونه من الأبوين والمجتمع، فيكبر الفرد معتقداً أن المنح شيء جيد في كل المناسبات ومع الجميع، على مبدأ المثل الصيني القديم الذي يقول: «إذا منحتَ دائماً، فستُمنحُ دوماً».
إذاً فنحن نكبر على مفهوم أننا كلما أعطينا أكثر، حصلنا على المزيد من عطايا الكون. وإن كان الواقع يؤازر هذا الاعتقاد الشائع في مواقف عدة، إلا أنه في الحقيقة يخالفها في حالات عدة أيضاً. فكم مرة أكرمت شخصاً تنكر لجميلك لاحقاً؟! وكم مرة ساعدت أحدهم فاستغلك ولم يساعدك حين احتجته بدورك؟!
إن كونك كريماً أمر تشاد عليه، وله فوائد على حياتك وحياة الآخرين من حولك دون أدنى شك؛ بل إن الكرم سمة نادرة وتصرف نبيل حثت عليه جميع الأديان. لكن البعض منا يعتقدون أن كل فعل خير لا بد أن يقابله رد فعل مماثل، ويبالغون في الإحسان، ويفرطون في العطاء.
هل تعلم أن الإفراط في العطاء علامة على اعتمادك على الآخرين؟ هذا صحيح. لأنك حين تكون معتمداً على الغير، فإن إحساسك بالرضا عن نفسك ينبع من إرضاء غيرك عبر إعطاء الكثير من أجل الحصول على ثنائهم واهتمامهم. لكن مثل هذا التقدير لا أساس له ولا قيمة؛ لأنه لا يأتي من الداخل، بل من الخارج.
إن الكرم الزائد تجاه شخص ما يعني أيضاً أن لديه فرصة أقل لفعل ما عليه فعله لنفسه، حتى لو كان الأمر مجرد تقديم الهدايا بشكل مفرط. يلاحظ -على سبيل المثال لا الحصر- أن الأطفال على وجه الخصوص، ينتهي الأمر بهم مدللين كسالى حين يفسدهم الأهل بكثرة الهدايا وتلبية طلباتهم أياً كانت. ونفس الشيء ينطبق على أي شخص تمنحه أكثر مما يجب، فيصبح عطاؤك مع الوقت لزاماً عليك بنظره، بل ويفقد هذا المنح بريقه مع الزمن لأنه أصبح أمراً روتينياً معتاداً، لينقلب أي تقصير بسيط من طرفك مدعاة للسخط والامتعاض ممن تحسن إليه!
إذن فنحن أمام مشكلتين: الأولى هي اعتقادنا الداخلي بأن أي خير نمنحه للعالم الخارجي سيرتد إلينا بمثله أو أكثر. والثانية هي توجه الكثيرين منا إلى منح الآخرين كل ما يريدونه لكسب محبتهم واحترامهم؛ ما يؤدي في نهاية المطاف إلى نتائج لا تحمد عقباها.
من أكثر الأشياء إيلاماً للشخص الكريم هو أن يعطي شخصاً يحبه عن طيب خاطر، فيقابله الآخر بالجفاء والبعد والتنكر للجميل. لا شيء أصعب على أصحاب القلوب النقية ممن يضحون في سبيل إسعاد من حولهم أكثر من أن يذهب عطاؤهم سدى كأنهم لم يفعلوا شيئاً، بينما بذلوا في سبيله الغالي والرخيص، وضحوا بالكثير حتى يسعدوا شخصاً وينالوا محبته واحترامه.
إن المشكلتين السابقتين هما مصدر تعاسة العديد من الناس، ولا بد أن نوقظ عقلك على ضرورة إدراك حقيقة أن الإحسان لا يؤتي ثماره مع الجميع، بل ينفع مع البعض بينما يعطي مفعولاً عكسياً مع آخرين. كما أن زيادة العطاء حتى تجاه من يستحقون يمكن أن يفسد قلوبهم، ويحملك ما لا طاقة لك به، ويجعل أي تقصير يبدر من طرفك يوحي إليهم أن درجة محبتك لهم انخفضت؛ وبالتالي تتأذى العلاقة لا لأنك قصرت بالفعل، لكن لأنك رفعت سقف التوقعات إلى حد لا يمكنك مواكبته دوماً بحكم أنك إنسان من لحم ودم يمكن أن تمرض أو تتعب أو تشعر بالكآبة أحياناً، فيتأثر عطاؤك حتى تجاه من تكن لهم كل مشاعر الحب والتقدير.
وأخيراًن يقال بأنه ينبغي ألا ننتظر اللطف من أحد. فالإحسان والعطاء تعامل لا تبادل، وليس كل من تحسن إليه قد تربى على الاعتراف بالجميل ورد العطاء. فأحسن لمن يستحق، ولا تبالغ في كرمك، ولا تنتظر ورود العرفان والشكر.