كلنا نعرف الأهرام الفرعونية التي تطلبت جهوداً جبارة وزمناً طويلاً لبنائها، أليس كذلك؟ تخيل معي الآن هذا السيناريو: مجموعة من الناس اجتمعوا في عصرنا الحالي، وقرروا إعادة بناء «هرم خوفو» مرة أخرى، باستخدام تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين.
قبل إجراء حسابات بسيطة تسبق عملية البناء، ينبغي أن يكونوا على علم بأن هرم خوفو يحتوي على 2.2 مليون حجر، وكل حجر يتراوح وزنه ما بين اثنين فاصلة واحد إلى ثلاثة أطنان. وهذا يعني أن وزن الهرم ككل يتراوح بين 5.7 إلى 6.5 مليون طن تقريباً، بناء على حساب مجموع أوزان الأحجار المذكورة.
وبالتالي، إذا أردنا بناء هذا الهرم ثانية، هناك عدة نظريات تتطرق إلى هذه المسألة؛ تنص إحداها على أنهم بنوا Ramp، أي مدرج أو مزلق أو منحدر لنقل الحجارة من الأرض إلى الارتفاعات. وحتى ينجح بناء هذا المنحدر لا بد أن يكون بطول ميل كامل (أكثر من كيلومتر ونصف). وحتى تبني هذا المنحدر فقط، فأنت بحاجة إلى عدد حجارة يساوي العدد المطلوب لبناء هرم خوفو بمرتين؛ مما يجعل تحقيق هذا الهدف شبه مستحيل تقريباً!
في نظرية ثانية، رأى القائمون عليها أن الحل يكمن في بناء منحدر داخل الهرم نفسه، وهذه النظرية الأقرب إلى الصواب وتفسير كيفية الانتهاء من بناء الهرم في ذلك العصر. ولو فرضنا أننا نريد رأي بعض المختصين الذين وضعوا خطة عملية لبناء الهرم في وقتنا الحاضر باستعمال كل وسائل التكنولوجيا المتاحة في زماننا هذا، فإن تكلفة إتمام هذه المهمة حسبما يرون يعادل حوالي 5 مليارات دولار!
مع العلم أن جميع ملاعب كرة القدم الثمانية التي قامت دولة قطر ببنائها بهدف استضافة مباريات كأس العالم لسنة 2022م، كلفت 6.5 مليار دولار! بينما بناء هرم خوفو وحده سيكلف 5 مليارات دولار، تخيل!
من هذا المنطلق، يبدو أن أسلافنا وقدماء التاريخ قد قدموا إسهامات جليلة للبشرية جمعاء، وأبدعوا أشياء يصعب علينا في هذا الزمان أن نقلدها رغم كل ما وصلنا إليه من تقديم تكنولوجي. صحيح أن بوسعنا محاكاة كثير مما فاضت به عقول العظماء على مر العصور بفضل التقدم التكنولوجي والازدهار الحضاري اليوم؛ لكن يبقى لكل زمن إبداعاته المتفردة.
وهذا إن كان يدل على شيء، فإنما يدل على أن الإنسان هو أصل الإبداع وليست التكنولوجيا نفسها. ففي حين كانت الأمم والشعوب تفتقد في الماضي السحيق إلى كل وسائل التقدم التي نحظى بها اليوم، إلا أنها استطاعت إنتاج أعمال تبدو لمن يشاهدها الآن أشبه بالمعجزات التي لا يُعرف تفسيرها، ولا يمكن أن تتكرر.
حين نقف أمام إنجاز بشري على امتداد التاريخ، ونلقي الضوء على نتاج إنساني عبقري؛ فلا بد أن نرفع القبعة لكل مفكر ومبدع ومخترع، وأن ندعم أصحاب العقول والمواهب الفريدة، ونشجع البحث العلمي، ونمهد الطريق أمام المبتكرين الذين لولاهم لما أمكن تحقيق أي تطور أو نمو أو ازدهار..في نفس الوقت، ينبغي أن نتواضع مهما ارتقينا فكرياً وحضارياً؛ لأن من سبقونا قدموا إسهامات جليلة مهدت الطريق نحو النجاح. ولولا جهود السابقين لما تمكن اللاحقون من تحقيق أي شيء يذكر. ذلك أن النتاج الإنساني ككل هو عبارة عن رحلة من الإنجازات المتتالية والنجاحات المتعاقبة، كل مرحلة تبني على ما قبلها، وتؤسس لما بعدها.
إلى اليوم نقف مذهولين أمام الأهرامات الفرعونية التي بقيت وستبقى واحدة من عجائب الدنيا السبع. ظلت على امتدار مئات السنين إنجازاً بشرياً لا يضاهى ولم تكشف كل أسراره بعد. فتحية احترام لكل من ساهم في ازدهار الحضارات، وتقدم العلم، وبناء صرح الإبداع الإنساني العظيم حجراً حجراً.