+ A
A -
يقول ابن حزم في الجزء الرابع من رسائله:
ناظرتُ رجلًا من أصحابنا في مسألة، فغلبته، فقد كنتُ أفصحُ منه لسانًا، وأقدرُ بيانًا عما أراه مما تناظرنا فيه، وانفضَّ المجلس على أني الغالب، فلما أتيتُ منزلي حاكَ في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب، فوجدتُ برهانًا صحيحًا بيَّنَ بُطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن حضر نقاشنا، فأخبرته بذلك، ثم إنه لما رآني قد وضعتُ علامة في الكتاب حيث المسألة قال لي: ما تريدُ بهذا؟
قلتُ: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان وإعلامه بأنه المُحق وأني المخطئ، وأني تركتُ قولي وتبعتُ قوله!
قال: أوتفعل مع ما في هذا من بهتان لكَ؟
قلتُ: نعم ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا ما أخرته إلى غد!
بداية.. النقاشات التي لا تقوم على مبدأ عنزة ولو طارت هي دليل عافية، ولا يوجد مجتمع احتلَّ مرتبة مرموقة إلا وكان قد شهد سجالًا في الأفكار، ومبارزة بين العقول، ونقاش فكرتين كان أحيانًا يولد فكرة ثالثة، هي أصوب من الفكرتين اللتين قام لأجلهما النقاش، من نقاش الكوفيين والبصريين استقام علم النحو وبلغ أشده، ومن نقاش الفقهاء والمجتهدين وُلدت المذاهب وكان فيها رحمة للناس، حتى قال عمر بن عبد العزيز: ما كنتُ أحبُّ أن يتفق الصحابة فيما اختلفوا فيه، ففي اختلافهم رحمة! ولقد كان من عمل الأنبياء ضرب الرأي بالرأي، ومقارعة الحجة بالحجة، وقد قال قوم نوح عليه السلام له: «قد جادلتنا فأكثرتَ جدالنا»، وقد وقف إبراهيم عليه السلام مناقشًا النمرود في أمر التوحيد.
ولكن النقاش لا بد له من ضابط، ولم أقرأ ضابطًا أحكم من قول الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب!
كلنا معرض لأن يخطئ، كتابةً وشفاهًا، وكتاب واحد لا ريب فيه هو كتاب ربنا، وكل يؤخذ منه ويردُ عليه إلا صاحب هذا القبر كما قال مالك وهو يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم!
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل إذا ما تبين لصاحب الرأي فساد رأيه، ولصاحب الكتاب خطأ كتابه، ومما أوصى به عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري يوم ولاه القضاء: ولا يمنعنك قضاء قضيته أمس فراجعتَ اليوم فيه عقلك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق!
ويعرض القرآن لنا نموذجين في حال الخطأ، هما إبليس وآدم عليه السلام، فالأول رفض السجود حين أُمر، والثاني أكل من الشجرة حين نُهيَ! فأما إبليس فأصرّ واستكبر، وأما آدم فندم وتاب، وبالاستكبار صار إبليسُ رجيمًا، وبالعودة إلى الحق صار آدم نبيًا! وهكذا نحن جميعًا فينا بذرة من كل واحد منهما، بذرة إبليسية وبذرة آدمية، ومنا من يسقي بذرته الإبليسية فيُصر، ومنا من يسقي بذرته الآدمية فيرجع، وتصرفاتنا لحظة وقوعنا في الخطأ هي التي تخبرنا إلى أيهما نحن أقرب!
عندما رأى عمر بن الخطاب مغالاة الناس في المهور، أراد أن يخفف على الناس، فصعد المنبر يريد أن يحددها بمقدار معين، فقامت الشفاء بنت عبد الله في المسجد، وقالت له لا يحق لك يا أمير المؤمنين إن الله قال: «وإن آتيتم إحداهن قنطارًا» فكيف تحدده؟
فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر!
الذي يرجع إلى الحق يعلو ولا ينخفض، يعزُّ ولا يذل، وما ضرّ أحدنا أن يقول لصاحبه إذا راجع نفسه، لقد أخطأتُ وأصبتَ، فهذا موقف لا خسران فيه أبدًا، إننا نربح أنفسنا أولًا والآخرين ثانيًا!
بقلم : أدهم شرقاوي
ناظرتُ رجلًا من أصحابنا في مسألة، فغلبته، فقد كنتُ أفصحُ منه لسانًا، وأقدرُ بيانًا عما أراه مما تناظرنا فيه، وانفضَّ المجلس على أني الغالب، فلما أتيتُ منزلي حاكَ في نفسي منها شيء، فتطلبتها في بعض الكتب، فوجدتُ برهانًا صحيحًا بيَّنَ بُطلان قولي وصحة قول خصمي، وكان معي أحد أصحابنا ممن حضر نقاشنا، فأخبرته بذلك، ثم إنه لما رآني قد وضعتُ علامة في الكتاب حيث المسألة قال لي: ما تريدُ بهذا؟
قلتُ: أريد حمل هذا الكتاب وعرضه على فلان وإعلامه بأنه المُحق وأني المخطئ، وأني تركتُ قولي وتبعتُ قوله!
قال: أوتفعل مع ما في هذا من بهتان لكَ؟
قلتُ: نعم ولو أمكنني ذلك في وقتي هذا ما أخرته إلى غد!
بداية.. النقاشات التي لا تقوم على مبدأ عنزة ولو طارت هي دليل عافية، ولا يوجد مجتمع احتلَّ مرتبة مرموقة إلا وكان قد شهد سجالًا في الأفكار، ومبارزة بين العقول، ونقاش فكرتين كان أحيانًا يولد فكرة ثالثة، هي أصوب من الفكرتين اللتين قام لأجلهما النقاش، من نقاش الكوفيين والبصريين استقام علم النحو وبلغ أشده، ومن نقاش الفقهاء والمجتهدين وُلدت المذاهب وكان فيها رحمة للناس، حتى قال عمر بن عبد العزيز: ما كنتُ أحبُّ أن يتفق الصحابة فيما اختلفوا فيه، ففي اختلافهم رحمة! ولقد كان من عمل الأنبياء ضرب الرأي بالرأي، ومقارعة الحجة بالحجة، وقد قال قوم نوح عليه السلام له: «قد جادلتنا فأكثرتَ جدالنا»، وقد وقف إبراهيم عليه السلام مناقشًا النمرود في أمر التوحيد.
ولكن النقاش لا بد له من ضابط، ولم أقرأ ضابطًا أحكم من قول الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب!
كلنا معرض لأن يخطئ، كتابةً وشفاهًا، وكتاب واحد لا ريب فيه هو كتاب ربنا، وكل يؤخذ منه ويردُ عليه إلا صاحب هذا القبر كما قال مالك وهو يشير إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم!
الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل إذا ما تبين لصاحب الرأي فساد رأيه، ولصاحب الكتاب خطأ كتابه، ومما أوصى به عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري يوم ولاه القضاء: ولا يمنعنك قضاء قضيته أمس فراجعتَ اليوم فيه عقلك وهُديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق!
ويعرض القرآن لنا نموذجين في حال الخطأ، هما إبليس وآدم عليه السلام، فالأول رفض السجود حين أُمر، والثاني أكل من الشجرة حين نُهيَ! فأما إبليس فأصرّ واستكبر، وأما آدم فندم وتاب، وبالاستكبار صار إبليسُ رجيمًا، وبالعودة إلى الحق صار آدم نبيًا! وهكذا نحن جميعًا فينا بذرة من كل واحد منهما، بذرة إبليسية وبذرة آدمية، ومنا من يسقي بذرته الإبليسية فيُصر، ومنا من يسقي بذرته الآدمية فيرجع، وتصرفاتنا لحظة وقوعنا في الخطأ هي التي تخبرنا إلى أيهما نحن أقرب!
عندما رأى عمر بن الخطاب مغالاة الناس في المهور، أراد أن يخفف على الناس، فصعد المنبر يريد أن يحددها بمقدار معين، فقامت الشفاء بنت عبد الله في المسجد، وقالت له لا يحق لك يا أمير المؤمنين إن الله قال: «وإن آتيتم إحداهن قنطارًا» فكيف تحدده؟
فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر!
الذي يرجع إلى الحق يعلو ولا ينخفض، يعزُّ ولا يذل، وما ضرّ أحدنا أن يقول لصاحبه إذا راجع نفسه، لقد أخطأتُ وأصبتَ، فهذا موقف لا خسران فيه أبدًا، إننا نربح أنفسنا أولًا والآخرين ثانيًا!
بقلم : أدهم شرقاوي