خلال عدة ساعات فحسب من بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا توالت الإدانات الصادرة عن الحكومات الغربية، وخلال بضعة أيام تعرضت روسيا لمجموعة واسعة من العقوبات طالت كل شيء، من الاقتصاد إلى الرياضة، وأوقفت الشركات الغربية مصانعها في روسيا ثم أغلقتها لاحقا.
ليس هذا فحسب، إذ تدفقت المساعدات على أوكرانيا، كما تدفقت الأسلحة بصورة غير مسبوقة، ومؤخرا أعلن الاتحاد الأوروبي أنه بصدد تزويد أوكرانيا بمليون طلقة من ذخيرة المدفعية وتسليمها في غضون «12» شهرا.
في مارس الماضي أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي بتهمة «ترحيل أطفال أوكرانيين في شكل غير قانوني»، وجاء رد الفعل الأميركي سريعا على لسان المتحدث باسم الخارجية الأميركية: «الولايات المتحدة ليس لديها شك في أن روسيا ترتكب فظائع في أوكرانيا، ولقد كنا واضحين بقولنا إن المسؤولين عنها يجب أن يُحاسَبوا»، مشددا على أن الجنائية الدولية «تعمل على نحو مستقل».
مذكرة التوقيف جاءت غداة إعلان محققين تابعين للأمم المتحدة أن نقل روسيا القسري وترحيلها أطفالا أوكرانيين إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها يرقى إلى جريمة حرب، وقال رئيس المحكمة الجنائية الدولية إن اتفاقية جنيف تحظر على سلطات الاحتلال نقل المدنيين، وإذا قبلنا بهذا المنطق فإن أول سؤال يتبادر للذهن: ماذا عن نقل مليوني فلسطيني إلى أماكن أخرى وتحويلهم إلى نازحين دون مأوى، ثم ماذا عن قتل آلاف الأطفال في غزة، وماذا عن كل الأشلاء التي شاهدها العالم عبر الشبكات التليفزيونية العالمية، وهي تنقل صورهم التي تدمي القلوب، ألا يستحق كل ذلك إصدار مذكرات توقيف بحق قتلتهم؟.
بعد أكثر من «50» يوما على العدوان الإسرائيلي الوحشي الذي طال كل شيء في غزة، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، لم نسمع شيئا مما سمعناه ضد روسيا، مع أن ما شهدته غزة لم نر مثيلا له على الإطلاق، فلم نسمع أن روسيا دمرت المستشفيات والمدارس ومراكز إيواء النازحين، كما لم نسمع أنها قتلت الأطفال والنساء وحرمت الآخرين من مسببات الحياة، عبر استهداف المساعدات.
تقول منظمة العفو الدولية، إن «أكثر من ثلث الضحايا في قطاع غزة من الأطفال، أي حوالي «6000» طفل لقوا حتفهم، دون أن يحرك ذلك مشاعر الغربيين ودون أن يروا في الأمر شيئا يستحق الإدانة على الإطلاق، كما لم تر المحكمة الجنائية الدولية ما يستحق النقاش على ما يبدو.
دعونا نفترض أن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت مذكرة توقيف بحق رئيس الحكومة الإسرائيلية على خلفية قتل أطفال غزة، هل كانت الولايات المتحدة ستصدر بيان تأييد على اعتبار أن هذه المحكمة «تعمل على نحو مستقل»، كما قالت تعقيبا على مذكرة التوقيف بحق الرئيس الروسي؟.
بالتأكيد لا، فلا الجنائية الدولية تريد أن ترى ضحايا العدوان من الأطفال الفلسطينيين، ولا الغرب على استعداد للترحيب بهكذا تطور، وكل ما يحدث هو الكيل بعشرين مكيالا تبعا للمصالح ليس إلا.
الحكومات الغربية فقدت مصداقيتها، حتى لا نقول فقدت أخلاقها، أمام كارثة غزة المروعة، وكل الانتقادات «الخجولة» التي نسمعها هدفها مسايرة الرأي العام الشعبي الذي هاله ما يحدث هناك، وهي في كل الأحوال لم تقل للإسرائيليين أكثر من «حاولوا تخفيف أعداد القتلى المدنيين».
نعود للجنائية الدولية، فقد طالب المدعي العام للمحكمة كريم خان إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية «حماس» بالالتزام بالقانون الدولي والسماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة المحاصر، وعرض على إسرائيل أن تقدم لها المحكمة يد المساعدة في التحقيق في الهجمات التي شنتها حماس في السابع من أكتوبر، رغم أنها ليست عضوا في المحكمة التي يقع مقرها في لاهاي ولا تعترف بولايتها القضائية، ومما قاله إن «الهجمات على المدنيين الإسرائيليين الأبرياء تمثل بعضا من أخطر الجرائم الدولية التي تهز ضمير الإنسانية، وهي جرائم أُنشئت المحكمة الجنائية الدولية لمواجهتها».
أما فيما يتعلق بأكثر من «16» ألف مدني فلسطيني قتلوا في غزة، فإن كل ما فعله هو مناشدة الإسرائيليين بذل ما في وسعهم لحماية المدنيين في القطاع خلال هجماتهم على حماس، ومنع المستوطنين الإسرائيليين من مهاجمة الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة.
هذا انحياز مريع، وغير قانوني، وهو يعيدنا مرة تلو المرة لما صدر عن المكمة الجنائية الدولية، التي لم تر كل الجرائم المروعة التي استهدفت الأطفال، وجل ما لفت انتباهها أن «يجري الأطباء عمليات في ظل عدم وجود إضاءة أو لإجرائهم عمليات جراحية للأطفال دون تخدير»، لكن قتل الأطفال بالطريقة الإجرامية التي رأيناها «مسألة فيها نظر».hassan@al-watan.com