+ A
A -

لا يوجد شيء ثابت في السياسة، إذ لابد من الانسجام مع المتحولات، والتعامل مع المتغيرات، والمتتبع لسياسات الدول، خاصة المؤثرة منها، سوف يدرك ذلك دون عناء، والسياسة بهذا المعنى «فن الممكن» كما يقال دائما، والممكن قابل للتغير باستمرار، لكن لكل قاعدة ما يخالفها، فالمبادئ التي قامت عليها السياسة القطرية ثوابت لا تتغير، فهي البوصلة التي تهتدي بها والمرتكز الرئيسي الذي تستند إليه في تحديد مواقفها، مع وجود المرونة المطلوبة في الحدود المعقولة.

والمتأمل للدبلوماسية القطرية في العقود الثلاثة الأخيرة سيلاحظ النشاط والحيوية والديناميكية في التعامل مع الأزمات وفي إدارة المفاوضات واحتضان المؤتمرات، وتتمتع قطر بسياسة مستقلة ومحايدة ومنسجمة مع محيطها الإقليمي وقواعد المجتمع الدولي، نتيجة وقوعها في منطقة جيوسياسية مهمة وحساسة، لا تخلو من الاضطرابات والتوتر بسبب الصراعات الدائرة فيها، فكان أن لجأت إلى تكريس نهج الحوار والمساعي الحميدة والوساطة والدبلوماسية الوقائية والعمل على تسوية المنازعات والأزمات بالطرق السلمية بكل حيادية وشفافية ووفق أحكام القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة.

هذا المدخل كان لا بد منه وأنا أستمع إلى كلمة حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى في افتتاح الدورة الرابعة والأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة أمس.

وقد بدأ صاحب السمو كلمته الهامة بالتأكيد على أهم ثوابت السياسة القطرية، وأولها الحفاظ على وحدة وتماسك البيت الخليجي عبر دعم مسيرة مجلس التعاون كمنظومة قوية ومتكاملة، لها دور رئيسي وفاعل في حفظ الأمن والاستقرار من جهة، وتحقيق الازدهار والرخاء لشعوبنا الخليجية من جهة أخرى، عبر المنجزات والمكاسب التي تحققت، والتي تطمح دولنا الست إلى تحقيقها أيضا، ويبقى التزام قطر بدعم ومساندة المجلس مبدأ راسخا لا تحيد عنه لما له من مردود على أمن واستقرار وازدهار الدول الأعضاء به، بل والمنطقة ككل، ولما يمثله المجلس من عامل استقرار رئيسي في مواجهة تحديات كبيرة تشهدها المنطقة العربية.

وفي إطار هذا «الثابت» في السياسة القطرية أشار سموه إلى «3» محددات مهمة:

أولا: التواصل والتفاهم بين القادة في تنمية وتعزيز العمل الخليجي الـمشترك بـما يحقق مصالح دولنا وتطلعات شعوبنا، ويعزز مكانة مجلس التعاون إقليميا ودوليا، ويتيح فرصا أكبر للنمو والازدهار، ويسهم في ترسيخ الأمن والاستقرار في الـمنطقة والعالم.

ثانيا: ضرورة التشاور المستمر والتنسيق للتعامل مع الـمتغيرات الدولية والإقليمية الـمتسارعة وتجنب تبعاتها ودعم مكتسبات مجلس التعاون في شتى الـمجالات الاقتصادية، والأمنية، والاجتماعية، وغيرها.

ثالثا: الإيمان بأن دول الـمجلس يـمكنها التوصل إلى التفاهم والتعاون بـما من شأنه أن يسهم أيضا في حل بعض القضايا الإقليمية، وهو ما أشار إليه صاحب السمو في منشور عبر حسابه الرسمي على منصة التواصل الاجتماعي «إكس» أيضا: «تنعقد قمتنا في وقت تشهد فيه منطقتنا والعالم تحديات كبيرة، يمكن لدولنا الخليجية أن تلعب فيها أدوارا تسهم في حلها والتخفيف من آثارها».

في هذه الكلمة الهامة حضرت فلسطين، وهي التي لم تغب يوما عن قطر، وكما في كل خطابات صاحب السمو، وأبرزها كلمات سموه في افتتاحات مجلس الشورى، واجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي كل محفل آخر، فقد أفرد سموه حيزا كبيرا ومهما للعدوان الذي يتعرض له قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا «الثابت» في السياسة القطرية لم يتغبر يوما، ولطالما عبرت قطر عن إدانتها للاعتداءات والجرائم والانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة والممنهجة التي ترتكب ضد أبناء الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة، ومن ذلك محاولة ترسيخ سياسات إسرائيل الاستيطانية والعنصرية، وتوفير المناخ المناسب لتنفيذها عبر مصادرة ممتلكات الفلسطينيين وهدم بيوتهم وتشريدهم القسري وحماية المستوطنين المتطرفين ومحاولة تهويد مدينة القدس وتغيير هويتها وتركيبتها الديموغرافية وانتهاك حرمة المسجد الأقصى المبارك بما يشكل انتهاكا واضحا للقوانين الدولية، كما دعت قطر المجتمع الدولي باستمرار إلى تحمل مسؤولياته القانونية والأخلاقية بإلزام إسرائيل على احترام قرارات الشرعية الدولية، وحماية الفلسطينيين، وإنهاء احتلال كافة الأراضي العربية، ووقف السياسات الاستيطانية، ورفع الحصار الجائر عن قطاع غزة، وحل مشكلة اللاجئين بشكل عادل ووفق قرارات الأمم المتحدة، وهذا ما عبر عنه صاحب السمو بالأمس خلال افتتاح أعمال الدورة الرابعة والأربعين للمجلس الأعلى لمجلس التعاون حيث تناول سموه ما يحدث في الأراضي الفلسطينية عبر مجموعة من المحددات والمواقف:

أولا: الحديث عن حجم المأساة والكارثة الإنسانية غير المسبوقة الناجمة عن العدوان الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني الشقيق، وخصوصا في قطاع غزة، حيث «انتهكت كافة الـمعايير والقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية من خلال ما ترتكبه قوات الاحتلال من جرائم ضد الإنسانية».

ثانيا: موقف المجتمع الدولي الذي «يتيح لهذه الـجريـمة النكراء أن تستمر لـمدة قاربت الشهرين تواصل فيها القتل الـممنهج والـمقصود للمدنيين الأبرياء العزل، بـمن في ذلك النساء والأطفال.. أسر بكاملها شطبت من السجل الـمدني، وجرى استهداف البنى التحتية الهشة أصلا، وقطع إمدادات الكهرباء والـمياه والغذاء والوقود والدواء وتدمير الـمستشفيات ودور العبادة والـمدارس والـمرافق الحيوية».

ثالثا: عجز الشرعية الدولية، وما يعنيه ذلك من أنها قد تكون من ضحايا هذه الحرب الهمجية.

رابعا: إدانة استهداف الـمدنيين من جميع الجنسيات والقوميات والديانات، والتشديد على ضرورة توفير الحماية لهم وفقا لأحكام القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.

خامسا: دعوة الأمم الـمتحدة إلى ضرورة إجراء تحقيق دولي بشأن الـمجازر التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني.

سادسا: استعراض الجهود التي بذلتها قطر من أجل عقد هدنة في قطاع غزة والإفراج عن بعض الأسرى والـمحتجزين من الـجانبين الفلسطيني والإسرائيلي وإدخال الـمساعدات الإنسانية العاجلة، انطلاقا من إيـمان قطر الراسخ بالعمل الإنساني، وحل الـمنازعات بالطرق السلمية.

سابعا: توجيه الشكر إلى جمهورية مصر العربية الشقيقة والولايات الـمتحدة الأميركية على تعاونهما الوثيق لتحقيق هذه الهدن وتنفيذها.

ثامنا: التأكيد على بذل الجهد بالتعاون مع الشركاء الدوليين والإقليميين للتوصل إلى وقف شامل للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في كافة الأراضي الفلسطينية.

تاسعا: دعوة مجلس الأمن، ولا سيما أعضائه الدائمين، إلى القيام بـمسؤوليته القانونية والعمل على إنهاء هذه الـحرب الهمجية، وإجبار إسرائيل على العودة إلى مفاوضات ذات مصداقية لتحقيق الـحل العادل للقضية الفلسطينية وفقا لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية عبر حل الدولتين. وهو الـحل الذي ارتضاه الفلسطينيون والعرب وتوافق عليه الـمجتمع الدولي.

بهذا الوضوح، وبهذه الصورة الدقيقة والشاملة، استعرض صاحب السمو أمام القمة الخليجية، ما يحدث في الأراضي الفلسطينية، كما وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، وقدم للعالم ما يجب أن يكون عليه الحل، وهو في الحقيقة ما توافق الجميع عليه، عبر القرارات الأممية الصادرة في هذا الشأن.

منذ بدايات القضية الفلسطينية قبل أكثر من سبعين عاما ظلت هذه القضية المركزية حاضرة في وجدان قطر، وقد تترجم ذلك إلى دعم لا محدود في كل المحافل الدولية وبكل الوسائل والإمكانيات، حيث حملت قطر هم الفلسطينيين وطموحاتهم المشروعة وحقهم في إقامة دولتهم على ترابهم الوطني في كل محفل دولي، ولم تأل جهدا في التذكير بعدالة القضية الفلسطينية والظلم والجور الكبير الذي لحق بالأشقاء الفلسطينيين جراء الاحتلال الإسرائيلي، وما يحدث اليوم في قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة نتيجة حتمية لاستمرار الاحتلال، وهو ما حذرت منه قطر مرارا وتكرارا، ومع فظاعة ما نراه إلا أن الأمل ما زال كبيرا بأن «هذا الليل لا بد أن ينجلي».

المحور الثالث في كلمة صاحب السمو تناول الأزمات التي تواجه بعض الدول الشقيقة في ليبيا واليمن وسوريا ولبنان والسودان، حيث أكد سموه مرة أخرى على الثوابت القطرية فيما يتعلق بهذه الأزمات، عبر:

أولا: التحذير من الخطر الذي تشكله هذه الأزمات على السلام الاجتماعي ووحدة هذه الدول وشعوبها.

ثانيا: دعوة جميع الأطراف الـمتنازعة في هذه الدول، مجددا، «إلى تغليب الـمصلحة العليا للأوطان على الفئوية بكافة أشكالها والتسليم باحتكار الدولة للعنف الشرعي، وتجنيب الشعوب العنف والاقتتال والاحتكام إلى الـحوار لـحل الـخلافات وتحقيق تطلعات شعوبها في الأمن والاستقرار والتنمية».

ثالثا: التأكيد على «أمور محسومة تاريخيا في كافة أصقاع الأرض وتتعلق بالعلاقة بين الـمواطن والدولة، وأن ثمة وظائف مثل التشريع والقضاء واحتكار العنف الشرعي تحتفظ بها الدولة، وأن منازعة الدولة عليها لا تقود إلا إلى الفتن والفوضى والـحروب الأهلية».

الثوابت القطرية لم تتغير يوما، ودولة قائدها تميم المجد، سوف تبقى كعبة للمضيوم وإغاثة الملهوف، وحماية المظلوم، كما ستبقى منارة من منارات الدفاع عن القضايا العربية والإسلامية والإنسانية، وشعلة متقدة تبدد ظلمات القهر، حتى ينبلج نور العدل.

copy short url   نسخ
06/12/2023
240