+ A
A -

يروي د. غازي القصيبي حكايات مذكراته في الوزير المرافق في قالب الطرائف، لكن ليست دلالة كل هذه الطرائف باسمة في عمقها الأخير، وإن كانت مسلية في ذات اللحظة حين تسمع العجائب عن تلك الشخصيات أو المناسبات، ومع تنوع الشخصيات التي رافقها من قيادات العالم، فأنت تشعر بمضي الوقت ومتعته معاً في قراءتك أكانت مطالعة أم سمعية، وبالنسبة لي أجد مساحة تركيز أكبر في السمعية، وخاصة مع وجود تطبيقات مهنية، تسجل المواد بعرض متقن وصوت متفاعل، ولغة قوية السبك واضحة الصوت. هنا نعود للإبحار مع ذكريات غازي القصيبي، كان في إحدى مهامه مرافقاً للرئيس جيمي كارتر في فترة رئاسته وتكرر ذلك بعد خروج كارتر من موقع رئاسته التي رعت اتفاق السلام (المزعوم) بين مصر وتل أبيب، كان من الصعب على غازي أن يُعبّر عن موقفه المباشر كعروبي يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وحقها في استرداد وطنها السليب، وأن السلام الذي مُنح للصهيونية قُدّم لكيانٍ غير مستحق له، من نظامٍ (مصر) لا يملك أحقية التنازل، خاصةً أن ذلك وُضع في إطار العلاقات العربية الإسرائيلية، قبل أن يُحجّم كصفقة بين القاهرة وتل أبيب، وهي حالة يتم تعميمها اليوم على الوطن العربي، في أقطار عدة. ولذلك استخدم غازي بعض العبارات الذكية في حديثه عن الاتفاق وأزمة الرئيس السادات في حينه، لكن الغريب أن غازي ذكر في حكاياته بأن الملك خالد كان له موقف شخصي واضح باعتبار رأيه الإسلامي وكونه ملكاً للسعودية، مناهض وكاره للاتفاق ولموقف الرئيس السادات تحديداً، وهذا الجانب لم يُبرز في سيرة الملك خالد مع قضايا عدة ذكرها القصيبي عنه كان له فيها توجهاً تنفيذياً وموقفاً صريحاً، حيث إن الذاكرة كانت تركز دوما على إنابته لولي العهد في حينه الأمير فهد، أما في توثيقات القصيبي فقد كان موقف الملك خالد من السادات من العناصر التي أسست لعلاقة مختلفة مع الزعيم الليبي معمر القذافي، رغم التباين الواسع والعدائية التاريخية التي حملها القذافي للدولة السعودية، وهناك قصص شيّقة بينه وبين الرياض لا مجال لعرضها اليوم. لكن كارتر العائد من جديد لزيارة السعودية بعد فترته الرئاسية كان يتحدث بتوبيخ محبط للموقف الإسرائيلي الذي ابتلع الضفة الغربية وزحف بمستوطناته، وأن ذلك نقيضاً لاتفاق السلام لم يكن ذلك غريباً على الوعي العربي والإسلامي، غير أن صخب كارتر وشكايته عنه وهو عراب الاتفاقية هو مادة ساخرة من جديد للخطاب المزدوج للزعماء الأميركيين بين العرب والإسرائيليين وبين الموقع الرسمي وخارجه. يقول غازي إن كارتر كرر هذا الأمر في مأدبة العشاء التي أقامها له في حينه الأمير عبد الله رئيس الحرس الوطني السعودي، وأن الأمير عبد الله قال له في حينه: نحن نعلم ذلك ولكن ننتظر منك أن تُعلن ذلك للأميركيين وليس لنا نحن، وأن كارتر قال: نعم.. نعم سوف أُعلن ذلك (وأدين أفعالهم)، وبالطبع كلام الليل يمحوه النهار، يعلق غازي القصيبي على شكوى كارتر الشخصية من رفض مناحيم بيجن، أي حديث سياسي معه يعني بالتعبير العامي «ما عطاه وجه»، مشيراً إلى أن الصديق جيمي ليس له أي موقع رسمي اليوم في واشنطن، فقد أضحى من ذاكرة التاريخ. ولذلك أَغلق الباب في وجهه واستقبله بفتور في حكايات جانبية، شعر منها كارتر بالثقل والوقاحة، ومع ذلك اعتذر له بأن بيجن يبدو حزيناً بعد أن فقد زوجته، علق غازي على هذا الموقف بل «لأن اليهود الإسرائيليين يعرفون مع من يتحدثون ومن يهملون»، ولا يُضيعون أوقاتهم ولا جهودهم مع الطواقم الأميركية التي تسعى للحصول على دعم لمؤسساتها، أو تواصل لخلق علاقات عامة لا توجد لها مصلحة إلا لطرفهم. تبدو الصورة اليوم في ظل هذه الهيمنة الصهيونية الواسعة على الفضاء العربي كارثية بالفعل، فإما أن تنخرط الدولة أ أو ب في اتفاق تطبيعي جائر يروج للثقافة الصهيونية ويخدم إسرائيل، أو أن تعبر عليها وفود لا تنقطع من الممثلين للكيان تحت اعتبارات سياسية غير رسمية، أو علاقات عامة، أو مناسبات رياضية أو فنية، والمحصلة النهائية هنا هو رصيد يتراكم لصالح المشروع الصهيوني، والأخطر من ذلك تذويب تاريخ فلسطين في صخب التطبيع من (الأصدقاء) الصهاينة، وكأن مقولة الأعرابي القديم قد تحققت (مع التعديل) اليوم أشبعتُ قومي سلاماً وذهبوا بالإبل.

copy short url   نسخ
17/07/2022
80