نكتب في أعقاب ضربة أبريل العسكرية الغربية، التي كان عمودها القوة الصاروخية الأميركية، مع مشاركة فعّالة من فرنسا وبريطانيا، ونعتمد في تحليلنا هذا، ليس على جرد الضربة الأولى الهزيلة، رغم الخطابات التي وجهّها الساسة الغربيون، ولكن بافتراض أن الضربات قد تتواصل، وقد تُلحق نوعاً من التأثير السلبي، في تمركز قوات النظام والإيرانيين، لكنه سيبقى تأثيراً محدوداً ولن يُغيّر من قواعد اللعبة الرئيسية، التي حدّدناها في مقال الأسبوع الماضي، عن جيوبولتيك المنطقة الجديد.
ولنلاحظ هنا رسائل الضربة الأخيرة لنفهم الواقع، ولكن قبل ذلك نؤكد على حقيقتين:
الأولى: أن قلق أوروبا من صعود تحالف النفوذ الروسي الإيراني، واستقرار الخوذات الحمراء على مياه الخليج الدافئة، عبر ساحل إيران، وعبر إطلالة سوريا، على البحر الأبيض المتوسط قضية مقلقة للغرب، وستخضع لجدولة صراع متفاعل، أو نزاع بارد دون الحرب العسكرية، لمدة زمنية طويلة.
مذكّرين بأن أول غزو غربي للخليج العربي بدأ ولم يتوقف، منذ عام 1506 عبر الأسطول البرتغالي، ومنذ ذلك الحين والغرب يتبادل الاحتلال والهيمنة، على الخليج العربي، خاصة بعد أن هُزم أمامهم جيش الأحساء الإسلامي بقيادة السلطان الشهيد مقرن بن زامل، في موقعة العقير، وهي المعركة التي تسمّى بلاط الشهداء الثانية، لكثرة شهدائها.
غير أن ذلك الغزو الذي قدم من هولندا ولشبونة، ثم بريطانيا وضم الخليج تحت مظلته الاستعمارية في شركة الهند الشرقية، ثم نفوذ الولايات المتحدة الأميركية الواسع، ذلك التبادل لم يشمل مطلقاً الروس الأرثوذوكس، منذ القياصرة إلى البلاشفة الحمر.
وهذا يعني أن دخول روسيا التي يُعيد بناءها القيصر الجديد فلاديمير بوتين، بالتحالف مع الطائفية السياسية، في الجمهورية الإيرانية، والتي درستها موسكو جيداً، وصرح وزير الخارجية الروسي المخضرم لافروف، في مارس 2012، بأنها ضمن قواعد تحالفاتهم الوثيقة، أي منذ السنة الثانية لانطلاق الثورة السورية، فهذا الزحف حالة جديدة بين أوروبا التقليدية وحليفها الأميركي، وبين موسكو الجديدة.
أما الأمر الثاني: فهو قناعة الفكر السياسي المهني بأن أوروبا وأميركا لا تزالان تملكان قواعد لعبة، لإحداث تغييرات كبرى في منطقة نفوذهم المطلق في الخليج العربي، ولكنه اليوم لا يملك ما كان يملكه منذ 1909، وقت وراثته (للرجل المريض) تركيا، عند عزل السلطان عبد الحميد، وأفول السلطنة العثمانية، الذي استمر متفردا بهذه الجغرافيا، حتى حرب نقض الربيع العربي، الذي موّله نفط الخليج، وتسبب بتغيير الجغرافيا السياسية.
وبناء على ذلك، نفهم سياقات التصريحات التي صدرت، متفقة بين لندن وواشنطن وباريس، تزامناً مع ضربة فجر 14 من أبريل الجاري:
1- كل التصريحات بما فيها خطاب الرئيس ترامب، أكدت بوضوح أنهم لا يعتزمون نقض الملعب الروسي، وحتى إيران وُضع لها سياق تفاوضي عن طريق الروس.
2- أكد البنتاغون أن مسرح الأجواء للضربة، اتُّفق عليه مع الروس، وأكدت موسكو ذلك، وأن كل المجالات الجوية والحيوية لقواعدها لم يتعرض أي منها لأي اختراق.
3- من الواضح أن ترامب هذه المرة عاد إلى قاعدة التحالف الدقيق مع أوروبا القديمة، ولعب ماكرون دوراً مهماً في التنسيق مع موسكو، والتأكيد الواضح أن تصفية الثورة السورية التي نفذتها موسكو، ودعمها الغرب منذ قرار أوباما ترك المسرح للروس، هي ضمن التوافق الغربي الروسي، وليس الاختلاف مع موسكو.
4- فالتركيز اليوم على أن الحصيلة السياسية يجب أن تراعي حصة الغرب ووجوده، دون أن يتنازل الدب الروسي وعمامته الحليفة عن حصة النصر الأكبر، فانسحاب الروس من هذا الانتصار التاريخي على جثامين الشعب السوري حقق له تواجداً تاريخياً، وعلى الأقل لا يرغب الغرب أن يَطمئن بوتين بهذا النصر.
5- ويقوم ماكرون اليوم بإقناع موسكو وطهران من خلالها بأن يتزحزح موقعهم قليلاً، وهذا ضمن مساحة التفاهم الممكنة، بما فيه قرار موسكو الذاتي استبدال الأسد، لكن توافق طهران وموسكو حوله ليس سهلاً، ليس لصعوبة إطاحته كدمية، ولكن المشكلة في البديل الذي لا بد أن يميل لإحدى قوتي الاحتلال روسيا أو إيران.
6- هذا يعني أن ضجيج الحرب على إيران لا يقوم على رصد واقعي، وإنما هو تفعيل مركّز للضغط عليها، والتجاوب مع رسائل باريس، التي قد تكون عرّابة التسوية، وكما قلنا سابقا، فإن مهمة الخليج الجديد هنا، التسديد بصمت فقط، ولا بأس بشيء من الاحتجاج الصوتي.
ونؤكد أن لعبة الصراع قائمة، لكن ليس كما يتصور البعض، وهذا يعني ترجيح وصول الغرب مجدداً لاتفاق مع إيران، ونلحظ هنا تمسك أوروبا بأصل الاتفاق النووي، وأن فكر المؤسسات في واشنطن لا يزال يتعزز، مهما استجلب صوت صقور جدد، فترامب رغم عبثيته في تويتر، لكن يبدو أكثر قلقاً من تجاوز الخطوط الحمر لتقديرات مجلس الأمن القومي.
كما أن هذا المجلس لا يرى في حصيلة ما حققه ترامب من صفقات عبر أبو ظبي والرياض، واستنزاف بقية أطراف الخليج خسارة قومية، بل العكس، ورغم أن المثل العربي الشهير لا ينطبق على حالة الرئاسة، وهو قولهم (ذل من لا سفيه له)،، لكن واضح أن المؤسسة في واشنطن، والمؤسسة في الغرب، بدأتا تضبطان إيقاعات ترامب، حتى تنتهي فترته.
ومنذ أن يدخل العام الانتخابي الأميركي، حيز التفاعل الزمني، فإن ترامب سيكون تحت دائرة ضغط أكبر، لن تمكنّه من التلاعب بالأزرار السياسية، وإن عبثت أصابعه بأيقونة تويتر، حينها لن يضرب الأميركيون أكف الندم، بل من أرهق منطقته وشعبه، لاسترضاء واشنطن، على حساب أمته.
بقلم : مهنا الحبيل
ولنلاحظ هنا رسائل الضربة الأخيرة لنفهم الواقع، ولكن قبل ذلك نؤكد على حقيقتين:
الأولى: أن قلق أوروبا من صعود تحالف النفوذ الروسي الإيراني، واستقرار الخوذات الحمراء على مياه الخليج الدافئة، عبر ساحل إيران، وعبر إطلالة سوريا، على البحر الأبيض المتوسط قضية مقلقة للغرب، وستخضع لجدولة صراع متفاعل، أو نزاع بارد دون الحرب العسكرية، لمدة زمنية طويلة.
مذكّرين بأن أول غزو غربي للخليج العربي بدأ ولم يتوقف، منذ عام 1506 عبر الأسطول البرتغالي، ومنذ ذلك الحين والغرب يتبادل الاحتلال والهيمنة، على الخليج العربي، خاصة بعد أن هُزم أمامهم جيش الأحساء الإسلامي بقيادة السلطان الشهيد مقرن بن زامل، في موقعة العقير، وهي المعركة التي تسمّى بلاط الشهداء الثانية، لكثرة شهدائها.
غير أن ذلك الغزو الذي قدم من هولندا ولشبونة، ثم بريطانيا وضم الخليج تحت مظلته الاستعمارية في شركة الهند الشرقية، ثم نفوذ الولايات المتحدة الأميركية الواسع، ذلك التبادل لم يشمل مطلقاً الروس الأرثوذوكس، منذ القياصرة إلى البلاشفة الحمر.
وهذا يعني أن دخول روسيا التي يُعيد بناءها القيصر الجديد فلاديمير بوتين، بالتحالف مع الطائفية السياسية، في الجمهورية الإيرانية، والتي درستها موسكو جيداً، وصرح وزير الخارجية الروسي المخضرم لافروف، في مارس 2012، بأنها ضمن قواعد تحالفاتهم الوثيقة، أي منذ السنة الثانية لانطلاق الثورة السورية، فهذا الزحف حالة جديدة بين أوروبا التقليدية وحليفها الأميركي، وبين موسكو الجديدة.
أما الأمر الثاني: فهو قناعة الفكر السياسي المهني بأن أوروبا وأميركا لا تزالان تملكان قواعد لعبة، لإحداث تغييرات كبرى في منطقة نفوذهم المطلق في الخليج العربي، ولكنه اليوم لا يملك ما كان يملكه منذ 1909، وقت وراثته (للرجل المريض) تركيا، عند عزل السلطان عبد الحميد، وأفول السلطنة العثمانية، الذي استمر متفردا بهذه الجغرافيا، حتى حرب نقض الربيع العربي، الذي موّله نفط الخليج، وتسبب بتغيير الجغرافيا السياسية.
وبناء على ذلك، نفهم سياقات التصريحات التي صدرت، متفقة بين لندن وواشنطن وباريس، تزامناً مع ضربة فجر 14 من أبريل الجاري:
1- كل التصريحات بما فيها خطاب الرئيس ترامب، أكدت بوضوح أنهم لا يعتزمون نقض الملعب الروسي، وحتى إيران وُضع لها سياق تفاوضي عن طريق الروس.
2- أكد البنتاغون أن مسرح الأجواء للضربة، اتُّفق عليه مع الروس، وأكدت موسكو ذلك، وأن كل المجالات الجوية والحيوية لقواعدها لم يتعرض أي منها لأي اختراق.
3- من الواضح أن ترامب هذه المرة عاد إلى قاعدة التحالف الدقيق مع أوروبا القديمة، ولعب ماكرون دوراً مهماً في التنسيق مع موسكو، والتأكيد الواضح أن تصفية الثورة السورية التي نفذتها موسكو، ودعمها الغرب منذ قرار أوباما ترك المسرح للروس، هي ضمن التوافق الغربي الروسي، وليس الاختلاف مع موسكو.
4- فالتركيز اليوم على أن الحصيلة السياسية يجب أن تراعي حصة الغرب ووجوده، دون أن يتنازل الدب الروسي وعمامته الحليفة عن حصة النصر الأكبر، فانسحاب الروس من هذا الانتصار التاريخي على جثامين الشعب السوري حقق له تواجداً تاريخياً، وعلى الأقل لا يرغب الغرب أن يَطمئن بوتين بهذا النصر.
5- ويقوم ماكرون اليوم بإقناع موسكو وطهران من خلالها بأن يتزحزح موقعهم قليلاً، وهذا ضمن مساحة التفاهم الممكنة، بما فيه قرار موسكو الذاتي استبدال الأسد، لكن توافق طهران وموسكو حوله ليس سهلاً، ليس لصعوبة إطاحته كدمية، ولكن المشكلة في البديل الذي لا بد أن يميل لإحدى قوتي الاحتلال روسيا أو إيران.
6- هذا يعني أن ضجيج الحرب على إيران لا يقوم على رصد واقعي، وإنما هو تفعيل مركّز للضغط عليها، والتجاوب مع رسائل باريس، التي قد تكون عرّابة التسوية، وكما قلنا سابقا، فإن مهمة الخليج الجديد هنا، التسديد بصمت فقط، ولا بأس بشيء من الاحتجاج الصوتي.
ونؤكد أن لعبة الصراع قائمة، لكن ليس كما يتصور البعض، وهذا يعني ترجيح وصول الغرب مجدداً لاتفاق مع إيران، ونلحظ هنا تمسك أوروبا بأصل الاتفاق النووي، وأن فكر المؤسسات في واشنطن لا يزال يتعزز، مهما استجلب صوت صقور جدد، فترامب رغم عبثيته في تويتر، لكن يبدو أكثر قلقاً من تجاوز الخطوط الحمر لتقديرات مجلس الأمن القومي.
كما أن هذا المجلس لا يرى في حصيلة ما حققه ترامب من صفقات عبر أبو ظبي والرياض، واستنزاف بقية أطراف الخليج خسارة قومية، بل العكس، ورغم أن المثل العربي الشهير لا ينطبق على حالة الرئاسة، وهو قولهم (ذل من لا سفيه له)،، لكن واضح أن المؤسسة في واشنطن، والمؤسسة في الغرب، بدأتا تضبطان إيقاعات ترامب، حتى تنتهي فترته.
ومنذ أن يدخل العام الانتخابي الأميركي، حيز التفاعل الزمني، فإن ترامب سيكون تحت دائرة ضغط أكبر، لن تمكنّه من التلاعب بالأزرار السياسية، وإن عبثت أصابعه بأيقونة تويتر، حينها لن يضرب الأميركيون أكف الندم، بل من أرهق منطقته وشعبه، لاسترضاء واشنطن، على حساب أمته.
بقلم : مهنا الحبيل