في كلمته خلال قمة جدة للأمن والتنمية، وكما هي عادته، حمل حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، قضايا الأمة وهمومها، تحدث نيابة عنهم، وعبر عن نبضهم، ونقل تطلعاتهم لمستقبل أفضل كحال الدول والأمم على هذا الكوكب، بصراحته المعهودة، وإيمانه التام بضرورة أن يكون للعرب والمسلمين المكانة التي يستحقونها عبر الحفاظ على حقوقهم والمطالبة بها كلما ناسب المكان والزمان، فأصبحت كلماته هي الصوت المؤثر والمعبّر عن آمال الشعوب وآلامها. بدأ صاحب السمو كلمته أمام مؤتمر جدة للأمن والتنمية، بمقدمة في غاية الأهمية والوضوح؛ لا أمن ولا استقرار ولا تنمية في ظل النزاعات.. لم يقل إن الأمور بخير واستقرار تام، ولم يعطِ صورة وردية أو يروج لآمال وهمية، بل نقل الصورة الحقيقية بلا رتوش، فأوضاع العالم العربي لا تحتمل، وما تعيشه المنطقة يحتاج إلى حلول، وهذا لا يتطلب كلمات إنشائية لا طائل من ورائها، فسمى الأشياء بمسمياتها، ووضع النقاط على الحروف، بتأكيده أن المخاطر التي تحدق بمنطقة الشرق الأوسط في ظل الوضع الدولي المتوتر تتطلّب إيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية التي تشغل مكانة مركزية لدى شعوب عالمينا العربي والإسلامي وقوى السلام في العالم أجمع، لأنها قضية عادلة، وذات حمولة رمزية كثيفة في الوقت ذاته. وسيظل أهم مصادر التوتر وعدم الاستقرار قائماً ما لم تتوقف إسرائيل عن ممارساتها وانتهاكاتها للقانون الدولي، المتمثلة في بناء المستوطنات، وتغيير طابع مدينة القدس، واستمرار فرض الحصار على غزة. ولم يعد ممكناً تفهم استمرار الاحتلال بسبب السياسات الانتقائية في تطبيق قرارات الشـرعية الدولية، وتفضيل سياسات القوة وفرض الأمر الواقع على مبادئ العدالة والإنصاف. بهذه الكلمات، اختصر صاحب السمو ما يعتمل في نفوس العرب جميعا، ليس لأن فلسطين قضيتنا فحسب، بل لأن العدل مطلب أساسي وشرط رئيسي لتحقيق الاستقرار والأمن والسلام، ومن المؤسف أن هذه القضية لم تحظ بالعدالة التي تستحقها، وبعد أكثر من سبعة عقود مازال الشعب الفلسطيني عاجزا عن العيش في وطن آمن ومستقر، شأنه شأن كل شعوب الأرض. المخاطر التي تواجه منطقة الشرق الأوسط كثيرة ومتشعبة، وإيجاد حلول لها يستدعي البحث في العمق، وفي الأسباب التي أدت إليها، وعبر التاريخ الطويل من الاضطراب في هذه المنطقة كانت القضية الفلسطينية أحد أهم أسباب ذلك. وكما أوضح سموه، فقد أجمعت الدول العربية، على الرغم من خلافاتها، على مبادرة سلام عربية تعرب عن الاستعداد لتطبيع العلاقات معها جميعاً إذا وافقت إسرائيل على تسوية بناءً على قرارات الشرعية الدولية التي تقضي بالانسحاب إلى حدود عام «1967» ضمن اتفاقية السلام، ولا يصح أن نتخلى عن مبادرتنا لمجرد أن إسرائيل ترفضها. لقد قدم العرب كل ما يمكن تقديمه من أجل إيجاد حل عادل لهذه القضية، وكما قال صاحب السمو، فإنه لا يجوز أن يكون دور العرب اقتراح التسويات، ودور إسرائيل رفضها والزيادة في التعنت كلما قدم العرب تنازلات. وكما أن لإسرائيل رأيا عاما، فإن لدينا أيضاً في العالم العربي رأينا العام. نعم، والرأي العام العربي ضد الاحتلال، وهو يدرك تماما أن استقراره وأمنه يرتبطان ارتباطا وثيقا بإيجاد حل يضع حدا نهائيا لهذا الصراع، من أجل السماح بإطلاق عملية تنمية ندرك جميعا أن شرطها الأمن الذي لا يتجزأ على الإطلاق، وأساسه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وعندما أعرب صاحب السمو عن تطلعه إلى دور فعال للولايات المتحدة في الدعوة إلى مفاوضات جادة لتسوية القضية الفلسطينية، وفق قرارات الشـرعية الدولية، وعلى أساس مبدأ حل الدولتين الذي توافق عليه المجتمع الدولي، فلأن الدور الأميركي أساسي، ولأن الولايات المتحدة هي الطرف القادر على إحداث تغيير جوهري في هذا الاتجاه. في الشأن الخليجي.. أوضح صاحب السمو ما دأبت قطر على تأكيده مرة تلو الأخرى، وهو أن تحقيق الاستقرار في منطقة الخليج ضروري، ليس لها فحسب، بل للمجتمع الدولي بأسره. وفي كلمة سموه أكد مجددا على موقف قطر الثابت من تجنيب منطقة الخليج، والشرق الأوسط عموماً، مخاطر التسلح النووي، مع الإقرار بحق دول المنطقة في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، وفقاً للقواعد الدولية. كما أكد سموه على ضرورة حل الخلافات في منطقتنا بالحوار القائم على احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتعزيز المصالح المشتركة، والمشاركة في تحمل المسؤوليات. لقد آمنت قطر بالحوار على الدوام، وكان ذلك في صلب سياساتها وتحركاتها على الساحة الدولية، وفي صميم الوساطات الخيرة التي قامت بها في أكثر من مكان، واستطاعت، عبر الحوار الجاد والمسؤول والشجاع، أن تحقق نجاحات باهرة، أحدثها ما شهدناه على صعيد قضية أفغانستان بإنهاء واحدة من أكثر الحروب وأكثرها خطرا على الأمن والسلم الدوليين. وعندما يتحدث صاحب السمو عن الحوار، فإنما ينطلق من السياسات الشجاعة التي اختطتها قطر على هذا الصعيد، وأثمرت في أكثر من خلاف ونزاع. وكما كان سمو أمير البلاد المفدى صريحا وواضحا في عرض تداعيات ومخاطر استمرار الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي دون حل، كان صريحا وواضحا في تناوله للقضايا العربية الأخرى، بالدعوة إلى الاتفاق على قواعد نحترمها جميعاً، بحيث توجه عملنا لحل الأزمات في اليمن وليبيا وغيرهما من الدول؛ ومنها حصر أدوات العنف بين يدي الدولة، والتمييز بين النظام التوافقي والمحاصصة. فقد تتجاوز المحاصصة الشراكة في التمثيل السياسي إلى تقاسم الدولة ومؤسساتها كأنها غنيمة، بحيث لا تعود قادرة على القيام بمهامها. هذه المبادئ تصلح أيضاً دليلاً موجِّهاً في العراق ولبنان، اللذين يعيشان أزمات من نوع آخر. بهذه الصراحة وبهذا الصدق، وبهذا الإيمان بقضايا الأمة العربية لم يتردد سموه في التعبير عن قضية الاستقرار والأمن، بالتحذير من مخاطر انتشار السلاح، والمحاصصات في التمثيل السياسي، وعندما تحدث عن ذلك فإن دافعه الأكيد رؤية الدول العربية أكثر استقرارا وأمنا وسلاما. سوريا كانت حاضرة أيضا، وهي التي لم تغب يوما عن اهتمامات قطر، منذ الأحداث الدامية التي شهدتها، حيث أعاد سموه، حفظه الله، التذكير بعدم جواز قبول الأمر الواقع الذي يعني استمرار الظلم الفظيع الذي يتعرض له الشعب السوري، مطالبا الجميع بالعمل من أجل التوصل إلى حل سياسي وفقاً لمقررات «جنيف 1»، بما يحقق تطلعات الشعب السوري. وفي كل القضايا التي تناولها صاحب السمو كان القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة هو الأساس المتين والقاعدة التي يمكن الاعتماد عليها لحل القضايا العالقة.
آخر نقطة..
تتباين الخطابات.. وتتنوع الاهتمامات.. وتختلف الأولويات.. ولكن كلمة صاحب السمو في مؤتمر جدة، كما هو العهد، واضحة وصريحة وثابتة على ذات القيم والمبادئ التي طالما آمنت بها دولة قطر وقيادتها وشعبها، فجاءت محملة بهموم العرب وتطلعاتهم، عبر الإشارة، دون مواربة، إلى الأسس الحقيقية للنهوض بهذه المنطقة، وذلك عن طريق حل القضايا العالقة، وأهمها القضية الفلسطينية التي تحتل مكانة خاصة في وجداننا كعرب ومسلمين.