+ A
A -
لقد تميز الخط العربي عن غيره من الخطوط باعتباره أداة فنية لها خصائص الفنون الأخرى، وقيمها الجمالية الرفيعة، بالإضافة إلى كونه وسيلة تعبيرية تُستخدم في التفاهم، ونقل الأفكار والمعاني، ولأنه يمثل الصورة المرئية لكتاب الله، فقد اعتنى به الخطاطون، وأبدعوا وتفننوا في إخراجه بأفضل حلة، وأجمل منظر، وخير شكل، فابتكروا أنواعًا جديدة توالد بعضها من بعض. وكان ذلك سببًا في تطوره على مر العصور، منذ أن أشرقت شمس الإسلام من الجزيرة العربية وصولا إلى ما بعد السوبر عدمية.
يُعد الخطاط المصري كامل إبراهيم، آخر خطاطي مدينة الإسكندرية الكبار، وأحد رواد وأعلام فن الخط العربي في مصر والوطن العربي في العصر الحديث، ذلك الفن الذي تنفرد به اللغة العربية من دون سائر اللغات، والذي يُمثل مع ما يتصل به من تذهيب وزخرفة وحلي أبرز الفنون، التي عاشت مع تراثنا العربي والإسلامي قرونًا عدة. ويُعد هو وأخوه محمد إبراهيم من أعمدة فن الخط العربي، وأصحاب مدرسة فنية متميزة فيه، بالإضافة إلى كونهما أصحاب واحدة من أهم مدارس الخط العربي في مصر، وهي مدرسة محمد وكامل إبراهيم للخط العربي بالإسكندرية، والتي لا تزال تواصل عطاءها حتى اليوم.
ولد الخطاط كامل إبراهيم بمدينة الإسكندرية في 2 أبريل 1925م/ 9 رمضان 1343هـ، وهو الشقيق الأصغر للخطاط البارع محمد إبراهيم، الذي كان يتمنى أن يهبه الله شقيقًا يُحب فن الخط العربي ويتقنه، فاستجاب الله لدعائه ووهبه شقيقًا يعشق الخط العربي، ويُكرس حياته من أجله. وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بمدارس الإسكندرية، وبدأت تظهر موهبته الفذة في الخط العربي منذ الصغر، وتنمو مع مراحل تعليمه الأولى. فقد لفت نظر أساتذته بتفوقه وموهبته وجمال خطه؛ فأخذوا يتسابقون في مدحه وتشجيعه. ثم التحق بمدرسة تحسين الخطوط بالإسكندرية، التي أنشأها شقيقه، حيث تتلمذ على يديه، وعلى أيدي أساطين الخط العربي في ذلك الوقت، ومنهم سيد إبراهيم، محمد حسني، نجيب هواويني، وحصل على الدبلوم في الخط العربي في عام 1359هـ/ 1941م، وكان ترتيبه الأول على القطر المصري.
ثم أخذ في التفكير لإعداد مستقبل أفضل بعمل منظم خالد، يكون ذخيرة ومصنعًا وطنيًا لمحبي هذا الفن الجميل، وذلك بالإسهام مع أخيه بمدرسة تحسين الخطوط العربية لتعليم الخط العربي، وذلك بهدف تنمية مهارة الخطاطين، وأصحاب الموهبة في الخط العربي، ثم عمل كامل إبراهيم مديرًا لمدرسة تحسين الخطوط بالإسكندرية بعد وفاة أخيه محمد إبراهيم في عام 1369هـ/ 1950م، وظل يديرها حتى وفاته في عام 1421هـ/ 2001م، وهي المدرسة التي نالت شهرة كبيرة وذاع صيتها في كافة أرجاء مصر والعالم العربي، لما كانت تتمتع به من الجدية والالتزام في التدريس، بالإضافة لتفوق طلابها وخريجها. كما قام بتدريس الخط العربي وتاريخه بكلية الفنون الجميلة، وكلية والآداب جامعة الإسكندرية، وأصبح واحدًا من رواد الخط العربي في مصر والوطن العربي.
وكان كامل إبراهيم بالمشاركة مع أخيه محمد إبراهيم أول فنان يقيم معارض للخط العربي في العالم الإسلامي، وأول شخص يؤسس مدرسة لتحسين الخطوط العربية، والتي كانت المدرسة الثانية في مصر والبلاد العربية، وكانت بجهد شخصي حتى ضمتها وزارة المعارف المصرية، ولا تزال قائمة حتى اليوم. وقدم عطاءً سخيًا، استمر سنين طويلة، وتتلمذ على يديه نخبة من الخطاطين المعروفين، إذ تخرج في مدرسة محمد وكامل إبراهيم للخط العربي مجموعة كبيرة من كبار فناني الخط العربي في الإسكندرية ومصر والوطن العربي. ومن أشهر تلامذته الذين برعوا وأبدعوا في فن الخط العربي: عصام الدين الشريف، عصام الدين عبدالواحد، عبدالفتاح الصاوي، أحمد سليمان، وعلي حسن، محمد محمود رطيل، سعيد عبدالقادر، محمد كاظم أصفهاني.
ومن أهم أعماله وإنجازاته، قيامه بكتابة آيات قرآنية بخطه بمسجد الرسول (صلى الله عليه وسلم) بالمدينة المنورة، وقام بكتابة العديد من خطوط المساجد بسوريا والعراق وتونس ومصر، وله آثار ومقتنيات بتلك البلاد، وهو من كتب اللوحات القرآنية التي تزين جدران القاعة الكبرى بجامعة الدول العربية، وجدران المسجد المقام بداخل المبنى، وكتب بخطه، بتكليف من الدولة، خطوط متاحف سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد. كما قام مع أخيه بإنشاء أول متاحف للخط العربي بالإسكندرية ودمنهور والمنصورة، وتنقل الفنان كامل إبراهيم؛ بمعارضه في الخط العربي في كثير من مدن ومحافظات مصر، وأقام معارض للخط العربي، بلغت عشرين معرضًا في حياته. واستضافه الرئيس الحبيب بورقيبة لعمل مسح تاريخي للآثار العربية والمخطوطات بتونس في عام 1382هـ/ 1963م.
ويضم متحف مكتبة الإسكندرية في معرض ثابت أعمالا رائعة من كتابات الأخوين كامل ومحمد إبراهيم، إذ به العديد من لوحاته الفريدة، التي تضم آيات من القرآن الكريم، ومنها لوحة بالخط الفارسي الغباري، كتبها محمد إبراهيم، والذي يعد من أصعب الخطوط العربية، وقد استغرق في كتابتها شهرين، ثم أهداها للملك فاروق الأول في العيد التاسع لجلوسه على عرش المملكة المصرية في عام 1364هـ/ 1945م. وهذه اللوحة تضم القرآن الكريم كاملا في صفحة واحدة، ومحاطة بإطار زخرفي نباتي بسيط يناسب طبيعة الخط المدونة به، وقد وقعها محمد إبراهيم بتاريخ الأحد 24 جمادى الأولى 1364هـ/ 6 مايو 1945م
وبهذا يرى المؤرخون أن كامل إبراهيم واحد من القلة، الذين تركوا بصماتهم على قمم المجد، وخلدوا أعمالهم في أسفار مضيئة للأجيال، وكان من أبرزهم شأنًا في فنه الرائع، الذي انتشرت لوحاته في معظم البلدان الإسلامية والعربية، تحمل كلمات النور والهدى من كتاب الله الكريم، وتنشر الإبداع في مجال الخط العربي بكل شفاهية ودقة صنعة بين عشاق الخط وروداه.بقلم: د. علي عفيفي علي غازي
كاتب وباحث مصري
copy short url   نسخ
05/05/2020
1843